حرب أكتوبر 1973 لم تكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين دولتين في صراع جيوسياسي متعارف عليه، بل كانت محطة فارقة في تاريخ مصر الحديث؛ مصر التي خاضت هذه الحرب بروح أمة تستعيد كرامتها، كانت تدرك منذ اللحظة الأولى أن المعركة ليست مجرد دبابات وطائرات، بل صراع إرادات وأفق سياسي يمتد في كل الاتجاهات. تلك اللحظة التي تجلى فيها عزم المصريين على كسر الخطوط الدفاعية للعدو، استوعبت فيها مصر أن الزمن تغير، وأن الحرب لم تعد مقيدة بحدود الجبهة التقليدية، بل أصبحت حرباً ممتدة تستمر حتى اليوم ولكن بأساليب جديدة وأدوات مبتكرة.
منذ انتصار أكتوبر، أدركت القيادة المصرية أن المعركة الحقيقية لم تنته عند عبور القناة أو رفع العلم فوق سيناء؛ بل إن الحرب، بمعناها الأعمق، كانت مستمرة ومتعددة الوجوه. كانت مصر دائماً على استعداد لمواجهة المخططات والمؤامرات التي استهدفت استنزاف قوتها وإضعاف إرادتها. تلك المؤامرات التي لم تكن دائماً تأخذ شكلاً عسكرياً مباشراً، بل كانت تتسلل في ثنايا السياسات الدولية والإقليمية، وفي محاولات التأثير على الاقتصاد والاستقرار الداخلي.
تجلت عبقرية القيادة المصرية في تلك الفترة، وعلى رأسها الرئيس أنور السادات، في القدرة على قراءة الخريطة العالمية بحنكة وفطنة. مصر كانت تعلم أن الحرب الباردة التي كانت تسيطر على العالم لم تكن مجرد صراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بل كانت معركة شاملة تتجاوز ذلك لتشمل كل من يسعى للحفاظ على حريته واستقلاله؛ مصر، وهي تستعيد أراضيها، كانت تدرك أن العدو قد يعود بأشكال جديدة، وأن الحفاظ على المكاسب يتطلب جهداً مضاعفاً وإدراكاً عميقاً لتطورات العصر.
هنا، برزت أهمية التكنولوجيا في هذا السياق؛ مصر التي واجهت العدو في ميادين القتال المباشرة، كانت تعلم أن العصر القادم هو عصر التكنولوجيا والمعلومات. هذه الرؤية كانت واضحة منذ البداية، فبعد الحرب، لم تكتف مصر بتطوير قوتها العسكرية التقليدية، بل بدأت في استثمار الجهود لتكون قادرة على مجابهة التحديات الجديدة باستخدام العقل والذكاء. التكنولوجيا أصبحت سلاحاً أساسياً في المعركة المستمرة. أجهزة الاستخبارات، وسائل الاتصالات الحديثة، التقنيات العسكرية المتقدمة، كلها كانت جزءاً من خطة مصر الشاملة لتأمين نفسها ضد كل أنواع التهديدات.
لم تكن مصر بعيدة عن مجريات التطور التكنولوجي العالمي. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها، كانت مصر واعية تماماً بأهمية التقدم التكنولوجي في مواجهة التحديات الأمنية. استثمرت في بناء قدرات عسكرية جديدة تعتمد على تقنيات الدفاع الإلكتروني وتطوير الصناعات الدفاعية المحلية. لم تكن هذه مجرد خطوة لتحسين الجاهزية العسكرية، بل كانت تعبيراً عن رؤية طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق توازن استراتيجي في المنطقة.
وفي الوقت نفسه، استغلت مصر التكنولوجيا في ميادين أخرى. الإعلام، على سبيل المثال، أصبح ساحة جديدة من ساحات الحرب؛ الإعلام لم يعد مجرد أداة لنقل الأحداث أو عرض المواقف، بل أصبح سلاحاً استراتيجياً يمكن استخدامه للتأثير على الرأي العام وتشكيل المواقف الدولية. في هذا السياق، أدركت مصر أهمية التحكم في وسائل الإعلام، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على المستوى الإقليمي والدولي. كانت الحرب الإعلامية جزءاً من المعركة الكبرى، وكانت مصر قادرة على استغلالها بحنكة وذكاء.
وفي سياق متصل، كان للتكنولوجيا دورها الفعّال في مواجهة التحديات الاقتصادية التي حاولت القوى المعادية استخدامها كسلاح ضد مصر. العقوبات الاقتصادية ومحاولات الحصار لم تكن غائبة عن مسرح الأحداث، ولكن مصر استطاعت بذكاء استخدام التكنولوجيا لتخفيف الأثر وتعزيز استقلالها الاقتصادي. من تطوير الزراعة والصناعة المحلية إلى تحسين البنية التحتية، كانت التكنولوجيا حاضرة دائماً كأداة لتعزيز القدرة على الصمود.
ومع مرور السنين، أصبحت مصر أكثر اعتماداً على التكنولوجيا ليس فقط في الدفاع، بل في كل المجالات الحيوية، من تطوير قدرات الإنترنت وأنظمة الحماية الإلكترونية إلى تعزيز القدرات الاقتصادية عبر تبني الابتكارات في مجالات الطاقة والاتصالات والصناعات. هذا الاعتماد الذكي على التكنولوجيا لم يكن مجرد رد فعل للتهديدات التي واجهتها مصر، بل كان جزءاً من رؤية شاملة تهدف إلى جعل مصر قادرة على مواجهة كل التحديات المستقبلية.
الحرب التي بدأت في 1973 لم تكن حرباً تنتهي بتوقيع اتفاقيات السلام أو استعادة الأراضي. بل كانت، ولا تزال، حرباً مستمرة على مستويات متعددة. مصر، التي كانت على الدوام قادرة على المواجهة والصمود، استطاعت أن تتكيف مع المتغيرات العالمية وأن تستخدم التكنولوجيا كأداة لتحقيق أهدافها الوطنية، من الحرب التقليدية إلى الحرب التكنولوجية، ومن الصراع المباشر إلى الصراع الخفي، كانت مصر دائماً على استعداد لمواجهة أي تهديد.
إن مصر نجحت في تحويل التكنولوجيا من مجرد أداة إلى سلاح استراتيجي تستخدمه في معركتها المستمرة، من خلال الاستثمار في العقول والقدرات البشرية، استطاعت مصر أن تبني نظاماً متكاملاً للدفاع عن نفسها وتحقيق مصالحها. هذه الحرب الذكية التي تقودها مصر اليوم ليست أقل شراسة من حرب أكتوبر، بل ربما تكون أكثر تعقيداً وأكثر تطلباً للذكاء والحكمة.
كانت مصر على الدوام صاحبة رؤية، تمتد جذورها في الماضي وتطل بعيون متفحصة على المستقبل.