قال الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي، إمام وخطيب المسجد النبوي، إنه حين تلقي الدنيا بأثقالها على قلب المسلم وتتزاحم لديه الوساوس وتعظم الهموم، فإن دواء ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك).
حين تلقي الدنيا بأثقالها
وأوضح “ الثبيتي” خلال خطبة الجمعة الأولى في ربيع الآخر اليوم من المسجد النبوي بالمدينة المنورة، أن قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، يحمل في طياته معاني عميقة وأثرًا بليغًا على النفس والحياة، الكون بأسره والعباد جميعًا يقرؤون: قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فتغمر قلوبهم السكينة.
وتابع: إذ يوقنون أن المدبر الحكيم، مالك السماوات والأرض، هو الرحمن الرحيم الذي بلطفه يحيط عباده، لقد هيأ الله هذا الكون بديع الصنع للإنسان فسخر له الليل لسكناه والنهار لسعيه والشمس والقمر لمعاشه، والشجر والدواب في خدمته.
وأضاف أنه تعالى جعل الفلك تسبح في البحر، والماء ينهمر ليحيي الأرض، والهواء يعبر رئتيه بيسر، بسط له الأرض تحت قدميه، وأجرى عليها الأنهار وشق الوديان، وأنبت من باطنها كل صنوف النبات لتغدق عليه بخيراتها.
واستطرد: ليأكل من ثمارها وينظر الله في أفعاله، كيف يعمل، وكيف يشكر تلك النعم التي لا تحصى، منوهًا بأنه يغرس قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)؛ في قلب المسلم الرضا والتسليم بأن رزقه مضمون.
وأردف: وأن الله لايخفى عليه حال عبده، ولا فقره، ولا عوزه، ولا ما يحمله من هموم المستقبل، فالله برحمته وعلمه، يكفل لعباده الأرزاق فيورث في النفس طمأنينة وفي القلب سعادة.
تأصل هذا المعنى
وأفاد بأنها تأصل هذا المعنى في قلب المسلم واستشعاره بأن الله بصير به ومطلع على أحواله مستحضرًا معية الله وقربه منه يورثه السكينة وعدم القلق، إذ يعلم أن الله قريب يسمعه ويراه، كما قال سبحانه لموسى وهارون: (إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ).
ونبه إلى أن هذا الإدراك العميق يعزز التوكل على الله، ويشحذ الهمة في مواجهة التحديات وتحمل الأزمات بثقة وإيمان؛ وقف موسى عليه السلام أمام البحر، متبعًا بفرعون وجنوده، فكان الموقف عظيمًا، وكأن كل الأبواب قد أغلقت فنطق بكلمات المؤمن الواثق، الذي يوقن أن الله معه، قائلاً: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين).
وأشار إلى أنه إيمان لا يتزعزع ولا يهتز أمام، أي تحد؛ وهذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر إلى المدينة، وتبعه المشركون يريدون القضاء عليه، في ظلمة الغار، طمأن صاحبه أبا بكر. الصديق بكلمات الإيمان قائلاً: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، (ما ظنك بإثنين الله ثالثهما).
الله ناصر عبده
وبين أنها نفس الثقة، نفس اليقين، بأن الله ناصر عبده، ولا يُغلب من كان الله معه؛ وحين تلقي الدنيا بأثقالها على قلب المسلم وتتزاحم لديه الوساوس وتعظم الهموم، فإن دواء ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه، فإنه يراك).
ولفت إلى أن استحضار هذا المعنى العظيم يضفي على الصلاة لذة خاصة، ويمنح المناجاة أنسًا عميقًا، فتتهيأ القلوب للإقبال على الله، متدبرة آياته، غارقة في تأمل ملكوته، شاعرة بجلال الوقوف بين يديه؛ إنها الصلاة التي يخرج منها المصلي وقد أشرقت روحه، وانقشعت غيوم الهم عن قلبه.
وأكد أن قرآن يتلى يصنع العجائب يزرع في نفس المسلم الحياء من الله، فيستحى أن يراه حيث نهاه، أو أن يفقده حيث أمره يخشى أن تقوده أنامله إلى مواقع محرمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن تسير قدماه إلى أماكن لا يرضاها خالقه، وكذلك تستحي أذنه أن تستمع إلى اللغو، أو الفحش، أو الغيبة والنميمة إدراكًا منه بأن الله مطلع على كل ما يفعل ويسمع، فيجعل من مراقبة الله تعالى سياجًا يحميه من الوقوع في المعاصي.
فضيلة العفة
وأشار إلى أنه تعزز هذه الآية في نفس المسلم فضيلة العفة التي تلهمه الوقاية من الشهوات والنزوات، فإن تهادى إلى سمعه صوت الفتنة تقول هيت لك تذكر أن الله بصير به، فقال معاذ الله، فلا تسل عن هذا القلب وقوته ورباطة جأشه وثباته وسط المحن، قال ابن القيم رحمة الله في هذا اللون من القلوب (وقلب قد امتلأ من جلال الله عزوجل وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه فأي شيطان يجترئ على هذا القلب).
وواصل : يقرأ المظلوم قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فينساب إلى قلبه برد اليقين وسكينة الأمل مستروحًا أن حقه لن يضيع، إذ يدرك أن عين الله لا تغفل، وأن عدله قائم وسيقتص من الظالم في الوقت الذي يقدره سبحانه بحكمته، يتيقن المظلوم أن الظلم مهما اشتد واستطال، فله أجل محتوم، وأن حقه مصون، وفي صبره على الابتلاء كنز من الأجر لا يقدره إلا الله وأن منقلب الظالم وعاقبته وخيمة.
وألمح بأن معنى قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، يشكل قاعدة راسخة تدعم تنمية المجتمع وبناء الوطن ورفعة الأمة، وتحسين العمل وترتقي حياة الأفراد، فعندما يستحضر الموظف والمسؤول على حد سواء أن الله يراه ويطلع على أعماله، يتولد في نفسه دافع قوي للإخلاص والإتقان، يصبح العمل ليس مجرد واجب دنيوي، بل عبادة يبتغي بها رضا الله، فيظهر ذلك على أدائه ونزاهته وأمانته وتغليب المصلحة العامة ومقاومة الفساد، فتتقدم المؤسسات ويزدهر المجتمع، وتتحقق جودة الحياة في كل تفاصيلها.