تجد ازدواجية المعايير طريقها سهلًا ممهدًا إذا ما تباينت الرؤى حول المصالح، وإذا ما كان هناك خلل ما في المنظومة القيمية لدى الأفراد أو من يتحمل مسئولية إدارة شئون المؤسسة؛ فالتناقض بين الثوابت والممارسات نراه واضحًا في صناعة واتخاذ القرارات المؤسسية، وللأسف هناك صلاحيات تسمح لمن يخول لهم الأمر أن يمارسوا صور متعددة لازدواجية المعايير في كثير من الملفات والأعمال والمهام.
وهذا التناقض يسمح بتفشي العديد من الممارسات غير الصحيحة داخل المؤسسات، ويُحدث اعوجاجًا يفسره بعض المغرضين وأصحاب المصالح بأنه لصالح العمل؛ لكن التقويم الذي يقوم على محاكاة معلومة يؤكد أن نتاج العمل المنشود لا يصل قطعًا لمستويات الجودة الحقيقية، ولا يحقق الأهداف في صورتها المرتقبة، وليست الجودة هنا التي تقوم على تنظيم وترتيب وتنسيق ملفات وتستيف أوراق لا تترجم عين الواقع ولا تُظهر أوجه القصور والنقص.
وفي كثير من الأوقات يعتاد المنتسبين للعمل داخل المؤسسة على حالة ازدواجية المعايير، بل وتقبلها وتقبل نتائجها، وتسلم بأن المنظومة في طريقها السديد، وهذا الفشل بعينه؛ إذ يجب أن يكون هناك معياراً واحداً يدل على الشفافية ويبرهن على النزاهة ويؤكد على الاستقامة؛ لكن مخالفة ذلك إشارة واضحة إلى أن النفاق المؤسسي بات ينخر عظام المهنية ويلغي ماهية العدالة والمساواة، ويدحر مقومات تأصيل الحقوق وأداء الواجبات.
إن الضمير الحي يأبى أن تكال الأمور المؤسسية، بل والحياتية بتنوعاتها المختلفة بمكيالين أو أكثر؛ فهذا دون مواربة يسهم في إضعاف النسق القيمي والخلقي في النفوس، ويؤكد فكرة النفعية، ويضير بالديمقراطية التي تقوم على مبدأ الحرية المسئولة والعدالة الشاملة، ومن ثم سرعان ما تتساقط الأقنعة داخل المؤسسات إذا ما اختلفنا على المصالح؛ فيحارب كل منا الآخر من أجل تحقيق غايته دون مراعاة للمصلحة العامة.
وينبغي أن نعي عندما نعزز ازدواجية المعايير المؤسسية؛ فإننا نعضد ماهية النفاق المؤسسي ونقضي على مسارات تصحيح الخطأ؛ فالجميع بخير ما دامت المصالح الخاصة سارية، والتناحر والاختلاف والنزاع يدور طالمًا تضرر أصحاب المصالح الذي يتبنون فلسفة ازدواجية المعايير، ولا عجب من ذلك؛ فالأمر خارج إطار المثل العليا؛ حيث إن مبدأ السيطرة والمغالبة هو السائد داخل المؤسسات، وهنا نؤكد على خطورة ما قد نصل إليه.
إن عماد النزاهة وقلب الشفافية يرفض ازدواجية المعايير المؤسسية؛ فآثاره تظل باقية في النفوس عالقة في الأذهان من جيل لآخر، وآليات وجهود التنمية التي تستهدفها المؤسسات تذهب هباءً منثوراً في ظل تبني تلك الازدواجية، وإذا ما أردنا أن ننهض بالعمل المؤسسي ومخرجاته؛ فإنه يتوجب علينا أن نتخلى عن ممارسات الازدواجية والمغالبة في كل أمر نقوم به، وأن نتحرى في أحكامنا وقراراتنا معيارًا واحدًا نقره ونعلنه للكافة.
دعونا نعزز الفكر السليم الذي يحض على الشراكة لا المخاصمة التي تفرضها الحزبية والمغالبة داخل العمل المؤسسي، دعونا نأصل لمناخ داعم في صناعة واتخاذ القرار، دعونا نتغلب على بواعث الشرذمة التي تطلقها النفوس المريضة المحبة للسيطرة وفرض الرأي والهيمنة المؤسسية دون سند قانوني أو نص صريح يخول تحمل المسئولية في إطار فردي؛ فما أكثر المتشدقين الذين يحاولون تكسير اللُحمة والترابط بين منتسبي العمل المؤسسي.
إننا ندرك أن ازدواجية المعايير المؤسسية تؤدي إلى مزيد من الفتن داخل إطار العمل، بل وخارجه، وتحي ماهية التفكير غير القويم الذي يقر بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن من حق كل فرد أن يبحث عن مصلحته دون مراعاة لمبادئ وأعراف وقوانين العمل المؤسسي؛ فتلك مصيبة كبرى ومرض يستشرى بين المجتمعات تقوض مساعي الدول وتهدر طاقتها وتستهلك مواردها.
وبلسان مبين نرفض ازدواجية المعايير المؤسسية التي تضعف قيم الولاء والانتماء الوطني، ونرفض التعصب لأصحاب المصالح، ونرفض كل من يحاول العمل لذاته لا لمؤسسته، ونبغض كل من يحاول زرع الفتن داخل وخارج إطار المؤسسات؛ فما أحوج لبلادنا من التكاتف والرباط والمحبة والتآلف والشراكة والتعاون من أجل تحقيق نهضة الوطن الحبيب في ظل تحديات وأزمات متوالية في الداخل والخارج.
نتمنى زوال الانتماءات الضيقة، ورسوخ فكرة الدولة في الأذهان والأفئدة في ظل ما نؤمن به من قيم وبعيدًا عن الشعارات الزائفة؛ فنوقن أن الجميع لديه ما يقدمه لوطنه، وما يستطيع أن يؤديه من مساهمات مختلفة في ضوء ما يمتلك من خبرات متنوعة ومتعددة، ويكفي أن نؤمن بمبدأ المعيار الواحد، وندحر ازدواجية المعايير في حياتنا كلها.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.