إرتبطت قوّة الدول في الماضي إرتباطًا وثيقًا بالأساليب العسكرية التقليدية، وأعتمدت إعتمادًا كلّيًا على كثافة العنصر البشري وجاهزيّته البدنية وإمتلاكه الأسلحة الثقيلة، كالمدفعية والدبابات والمدرعات؛ غير أن هذا المفهوم بدأ يتغيّر شيئًا فشيئًا خصوصًا بعد أن بدأت تطفو على السطح أدوات من نوع آخر عزّزت ميزان القوّة العسكرية، مثل استخدام المجال الكهرومغناطيسي الذي لديه القدرة على التحكم بأنظمة العدو.
والحرب الإلكترونية التي من شأنها تعطيل أنظمة الاتصالات أو التشويش عليها، والهجمات السيبرانيه القادره على إختراق الشبكات، والأقمار الصناعية التي تعمل على تأمين الإتصالات المشفرة وتوفير صور المنشآت والثكنات العسكريه ، والطائرات بدون طيّار التي تستطيع تدمير الأهداف الاستراتيجية بدقة عالية.
فلم تعد الحروب الحديثة - نوعًا ما - بحاجة إلى الجنود في أرض المعركة لإحداث الضرر في صفوف العدو، بل أصبح من السهل تعطيل المنظومات العسكرية وتدميرها من خلال زرع البرمجيات الخبيثة فيها، أو التضليل الإلكتروني من خلال إرسال عدد هائل من البيانات الرقمية المتداخلة من أجل إعطاء قراءات خاطئة، أو حجب تلك المعلومات عن الطرف المستخدم لتلك الأنظمة، أو الحصول على معلومات العدو من خلال الهجمات الإلكترونية التي تقوم بها أجهزة الحواسيب عبر الشبكة العنكبوتية والاتصالات الرقمية بهدف تعطيل البرامج أو التلاعب بها أو استهداف البيانات بغرض سرقتها أو تدميرها، إضافه إلى إختراق الأنظمة وأوامر التحكم، بهدف إلحاق الأضرار البالغة بأنظمة برامج الطرف الآخر وحواسيبه.
كل ذلك ممكن أن يحصل بدون خسارة العديد من الجنود أو ربما بدون أرض معركة، وهنا يكمن خطر تلك المنظومات المطوّرة تكنولوجيًا؛ إذ إنها نوعًا ما أقل تكلفةً ولكنها أكثر فاعلية. أضف إلى ذلك حروب القوى الإعلاميه مثل القنوات الإخبارية ومنصّات التواصل الاجتماعي، التي تعمل على تأجيج الرأي العام، وتشكيل التحالفات من أجل التضييق على بعض الدول، كالحصار والعقوبات الاقتصادية، والعديد من الوسائل الأخرى بالغة الضرر والتي لا تقل تأثيرًا عن التدمير والقتل.
وبالرغم من أن التطور التكنولوجي زاد من فاعلية الأسلحة العسكرية، ومنحها بعدًا استراتيجيًا وأصبحت الأسلحة المتطورة تكنولوجيًا تُعرف بالأسلحة التكنولوجية الذكية، إلّا أن الأمر قد يصبح أكثر تعقيدًا عندما يتعلّق بمفهوم الحروب الحديثة، تلك الحروب التي يصعب التنبؤ بحدوثها أو تقييم أضرارها، خصوصًا أنّها حروب مخفيّة نوعًا ما، وتتّصف بالضبابية وعدم اليقين.
فالحروب الحديثة لا تحتاج إلى الأسلحة التقليدية، كالدبابات، والمدرعات، والأسلحة الثقيلة، والترسانات العسكرية الضخمة بالشكل الذي كان عليه الحال في الحروب السابقه؛ فإستخدام السلاح التقليدي سيكون أقل نوعًا ما في الحروب الحديثة، وستحلّ محلّه تدريجيًا الأسلحة التكنولوجية المتطورة.
وأرى أن الادوات المستخدمة في الحروب الحديثة التي تعتمد على التقنية والتكنولوجيا المتطوّرة كفيلة بتدمير إقتصاد الدول وتجويع الشعوب، وتدمير البنى التحتية، كالحروب السيبرانية على شبكات الاتصالات ومراكز البيانات، وتعطيل الأنظمه الأستراتيجيه المختلفه من خلال التلاعب بها ولعل ما قامت به روسيا في مطلع عام 2022 من أنشطة سيبرانية وكهرومغناطيسية ضد أوكرانيا وبعض الدول المجاورة خير دليل على ذلك.
إنّ التطوّر التكنولوجي بات عنصرا بالغ الأهمية لجميع الدول فى الحروب الحديثه؛ لأنه يرفع من قدره الجيوش على أداء المهمات العسكريه بإحترافيه ومرونه عاليه؛ إضافة إلى تقليل الإعتماد على العنصر البشرى وإستبداله بالتكنولوجيا، حفاظا على أرواح الجنود، وتوفيراً للوقت والجهد.
ولقد أصبح للتطوّر التكنولوجي تأثير كبير في الحروب الحديثة؛ لأنّ التكنولوجيا العسكرية تحوّلت إلى أسلحة استراتيجية قائمة بذاتها، وعنصر رئيس في صناعة التفوق العسكري بالميدان، قادر على ردع بعض الأسلحة الاستراتيجية وتعطيل المنشآت الحيوية، إضافة إلى أهميتها في تعزيز قوّة الدول من خلال معرفة مراكز ثقل العدو، وكيفية التعامل معها عن طريق استخدام الأدوات التي ساهم التطور التكنولوجي في إيجادها، مثل أنظمه المراقبه والأستطلاع والأستشعار عن بعد، وأنظمه الهجوم الألكترونى والأمن السيبرانى، والطائرات بدون طيار وأنظمه الدفاع الألكترونى وغيرها.
ولعل القفزة التكنولوجية في الجيوش الحديثة تتجلى في الأدوات والأسلحة التي ستُستخدم في حروب المستقبل، خصوصًا أن التطور الهائل والتسارع المستمر يلقي بظلاله على العالم أجمع، ويفرض على الدول واقعًا جديدًا ينبغي استخدامه لمواكبة سباق التسلح التكنولوجي الذي يشهده العالم حاليًا، وكذلك لمعرفة الثغرات والتهديدات المستقبلية المحتملة وكيفية التعامل معها. ما دفع العديد من الدول إلى التحديث المستمر لمنظوماتها العسكرية، وتعديل استراتيجياتها الدفاعية بما يتناسب مع التحديات الجديدة.
ومن ثمّ، نجد أن بوصلة الحروب الحديثة تُشير إلى مستقبل حروب تكنولوجية ذكية قد لا يكون الهدف منها القتال في ساحات المعارك، بقدر ما تكون حروب ذات أهداف استراتيجية تُدار من خلف الشاشات، أو حروب عن بعد .ولذا ستكون دول العالم عامّة، والدول الصغرى بخاصّة، مرغمةً على التكيف مع أوضاع الحروب الحديثة في المستقبل، وستكون الدول الصغرى تحت ضغط أكبر بصفتها الأكثر حاجةً في ظل هذا الصراع المستمر والمتغيّر.
وأخيرًا، فإن العديد من هذه الدول بصفتها دولً تنتهج العقيدة العسكرية الدفاعية، تبذل جهدًا مضاعفًا لمواكبة التطور التكنولوجي، وذلك لسدّ فجوة التطور التكنولوجى وغياب العمق الاستراتيجي بالحصول على أسلحة متطورة ومنظومات استراتيجية قادرة على ردع الأطماع وتحييد الأسلحة المتطورة التي تمتلكها الدول الكبرى.