لنتأمل السينما المصرية، تلك التي بدأت بلونين لا ثالث لهما، الأبيض والأسود. هذا الأبيض الذي لا نعرف أين يبدأ، وهذا الأسود الذي لا نعرف كيف ينتهي. تلك الشاشة الكبيرة التي رأينا فيها وجوهنا، حياتنا البسيطة، رأينا فيها الضحك الذي يرافقه الحزن دون أن نشعر.
كانت السينما المصرية في بداياتها تشبه طفلاً صغيرًا يتعلم المشي. أفلام بطيئة، مشاهد طويلة تملؤها الموسيقى وكاميرات تكاد لا تتحرك. لكن هذا الطفل كان يملك روحًا.
روح تلك المدة التي كانت فيها الحياة أكثر بساطة. أتذكر مثلاً فيلم "العزيمة" والذي صنف كواحد من أفضل مائة فيلم مصري، وتربع بقوة على قائمة التصنيف ليحتل المركز الأول في تصنيف النقاد الذي تم في عام 1996. في العزيمة، لم يكن هناك حاجة إلى الألوان البراقة أو المؤثرات الحديثة لخلق دراما مؤثرة؛ الحارة المصرية بأصواتها وحركتها، بظلالها وأنوارها، كانت تكفي لرسم صورة كاملة عن المجتمع والصراع الطبقي فيه. هنا تتجلى روعة السينما في بداياتها، بساطة الألوان، لكن عمق الرسالة.
كان الأبيض والأسود وسيلة مثالية لتصوير النقاء والقسوة في آنٍ واحد، وهو ما أبدع فيه كمال سليم بإخراجه، حيث جعل من الحارة المصرية بطلًا يوازي أبطال القصة أنفسهم. الفيلم يعتبر رمزًا لبداية السينما المصرية عندما كانت الأفلام لا تحتاج لأكثر من قصة حقيقية وأداء صادق لتحفر مكانها في ذاكرة الناس. تلك الفترة تمثل انطلاق السينما من كونها فنًا تجريبيًا إلى فن يمس نبض المجتمع، وهذا ما جعل أفلامًا مثل العزيمة والذي أنتج في عام 1939 تعيش حتى اليوم كأيقونة في تاريخ السينما المصرية.
كيف عاش أبطاله أحلامهم وسط زحام شوارع القاهرة القديمة؟ كانت تلك الأفلام تخاطب قلوب الناس بلغة العيون، و"عيون القلب" ليست فقط تلك الأغنية التي غنتها نجاة، بل هي السينما في حد ذاتها. اللقطة الواحدة تكفي لتخبرك ما لم تقله السطور.
ومع مرور الزمن، دخل اللون إلى السينما. هنا تغير كل شيء، وهنا تشعر كما لو أنك انتقلت من الحلم إلى الواقع فجأة. ترى الألوان جديدة، لامعة، وجذابة، لكنها أحيانًا تشعرنا بالغربة. أتعلم؟ عندما تنتقل من الأبيض والأسود إلى الألوان، تشعر بأن العالم أصبح معقدًا جدًا، بصورة لم تكن تتخيل أن تراها. في الأبيض والأسود، تشعر أن الحياة واضحة.
الخير واضح، والشر واضح. لكن الألوان؟ الألوان جعلت الحياة رمادية، كما هي في الحقيقة.. فيلم الأرض (1970) والمصنف كثاني أفضل فيلم في قائمة أحسن مائة فيلم في السينما المصرية، للمخرج يوسف شاهين، هو أحد أروع الأفلام التي تم تصويرها بالألوان، وهو يمثل أحد مظاهر النقلة النوعية في السينما المصرية. هذا الفيلم يجسد التحديات التي تواجه الفلاحين المصريين في مواجهة ظلم الإقطاع وأزمة توزيع المياه.
عند مشاهدتك للألوان في فيلم الأرض، تشعر بتداخل الطبيعة مع الصراع الإنساني. الألوان ساعدت على إبراز جمال الريف المصري، ومع ذلك، فإن هذه الطبيعة الخلابة تخفي وراءها صراعات شرسة. الألوان تجعلنا نرى الأرض بحقيقتها، بخصوبتها وجمالها، وفي نفس الوقت نرى كيف يمكن أن تكون مسرحًا للظلم والقهر.
كان هذا التحول من الأبيض والأسود إلى الألوان أشبه بانتقال السينما من الرمزية البسيطة إلى التعمق في تفاصيل الحياة، حيث لم تعد الأمور واضحة كالخير والشر في الأبيض والأسود، بل أصبحت الشخصيات والبيئة نفسها أكثر تعقيدًا وتناقضًا. في الأرض، الألوان لا تجمل الواقع، بل تكشف عنه.
الأرض التي تظهر خضراء وخصبة -هي نفسها- التي يسيل عليها د..م الفلاحين بلونه الأحمر في صراعهم للدفاع عن حقوقهم. هذا التناقض هو ما أضافه استخدام الألوان في السينما المصرية، ليعكس الصراع الاجتماعي في أدق صوره.الأرض كان أحد الأفلام التي استفادت من الألوان لتضيف بعدًا جديدًا للصورة السينمائية، مما يجعل الحياة أكثر واقعية وتعقيد على الشاشة، ويظهر أن الخير والشر ليسا دائمًا ما يظهران بوضوح في الحياة، كما كان الحال في أفلام الأبيض والأسود.
ثم جاءت الرقمية...وهنا دخلنا إلى حقبة لا يمكن أن أقول عنها إلا إنها عصر السرعة. عصر كالبرق، كل شيء يحدث قبل أن تملك الوقت لالتقاط أنفاسك.الكاميرات أصبحت أصغر، التصوير أصبح في كل مكان، حتى الأفلام أصبحت تُنتج بسرعة توازي سرعة تدفق الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي!
وهنا فقدنا شيئًا ما، تلك الروح التي كانت تملأ الأفلام القديمة.الآن، الأفلام الرقمية تُغرق السوق. المؤثرات البصرية تملأ الشاشة، لكن أين تلك اللقطة التي كانت تكفي لتروي حكاية بأكملها؟ أين تلك اللحظة التي كنت تنظر فيها إلى وجه فريد شوقي لتفهم كل شيء؟ بديلًا عن هذا، نحن نعيش الآن في عالم حيث كل شيء سريع، حتى المشاعر نفسها أصبحت تتسارع، بل حتى الحزن لا يجد وقتًا كافيًا لينضج كما يجب.
فهل تغيرنا أم هي السينما؟
هنا نعود إلى السؤال الذي لا إجابة له. هل السينما المصرية هي التي تغيرت؟ أم نحن الذين تغيرنا؟ هل فقدنا قدرتنا على الاستمتاع باللقطات الطويلة، بالحوار الذي يتسلل إلى قلبك ببطء؟ أم أن الزمن هو الذي جعلنا نبحث عن المتعة السريعة، عن الأفلام التي نشاهدها وننساها في نفس اللحظة؟ نحن نعيش في زمنٍ تتسابق فيه اللحظات، وتصبح الذكريات قديمة قبل أن تُصنع.
أحيانًا أقول لنفسي الزمن لا يتغير، نحن الذين نركض أسرع.