ربما كانت حالة من الفتور أو الإرهاق تلك التي انتابتني قبل أن ألتقط هاتفي، لأجد رسالة قد وصلتني، وما إن فتحتها حتى فوجئت بصديق عزيز يرسل لي مقالاً، طالبًا رأيي فيه، بدأت عيناي تتجول بين السطور، فإذا بقلبي الساكن ينبض مع كل كلمة أقراؤها، وكأن الكلمات تلامس أعماق روحي، أسلوب صديقي الأنيق وألفاظه الجزلة أضفيا على المقال رونقًا خاصًا، لا سيما وأن حديثه كان عن النور البشري ﷺ، المقال الذي أرسله صديقي كان عن "اللين" ذلك الملمح النوراني لأعظم مخلوق في البشرية ﷺ، اجتاحتني مشاعر عميقة وأفكار متدفقة حول جوهر اللين ومعانيه السامية، بدأت أقرأ بين سطور صديقي كلمات لم يكتبها، كلمات تردد صداها في عقلي وأشعلت داخلي ثورة من المعاني حول اللين واللطف الذي أصبحنا نفتقدهما، كما وصف صديقي، وأود أن أضيف: بل أصبحنا نختصمهما ونسخر ممن يتمسكون بها يا فتى.
كلمات صديقي كانت كمن رفع الستار عن وجه الحقيقة، فأظهرت حاجتنا الملحة لاستلهام ذلك الجانب البشري النقي من سيرة النبي ﷺ، ذلك الجانب الذي يشع لطفًا ورأفة، فما أحوجنا أن نعيش لطفه في تعاملاتنا اليومية، مع أهلنا وأصدقائنا، مع من يوافقنا الرأي ومن يختلف معنا، فالنبي ﷺ لم يكن لطيفًا في الأوقات السهلة فقط، بل كان مثالاً للرأفة حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، فاللين واللطف يغلقان الباب أمام وساوس الشيطان، وقفزات النفس التي تطيش بصاحبها عن جادة الصواب، ذلك السمو البشري في التعاملات هو السبب في التفاف الصحابة حول النبي ﷺ "ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك"، كما كان سببا في قبول شخصية النبي ﷺ بين من خالفوه في العقيدة، ورغم أن خلافهم معه ﷺ وصل لحد الخصومة والحرابة، إلا أنه اجتذبهم لطفه ولينه، كما يجذب المغناطيس الحديد، ولمَ لا وهو الذي كان يلاطف قلب اليتيم من ظلم المجتمع وقسوة الأيام، ويداعب الصغار ويرأف بالكبار، فهل عرفت البشرية يومًا زعيمًا أو قائدًا مثل محمد؟.
قائدًا كانت عيناه دائمًا تبحث عن المحتاجين في كل مكان، فيكفيهم حاجتهم، كم من مرة خفف عن أصحابه بكلمة طيبة، وكم من مرة ابتسم في وجههم وهو يحمل هموم الدنيا، لقد كان لطفه يغمر الجميع، حتى من أخطأ منهم، تخيل كيف تعامل مع الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث غضب الناس وأرادوا عقابه، لكن النبي ﷺ وقف بلطفه المعهود وقال: "دعوه ولا تزرموه"، ثم نصحه بلطف ورفق، أكان هناك من هو أقدر على تحويل الغضب إلى رحمة والجهل إلى علم مثلما فعل الرسول الكريم؟، نعم حول النبي ﷺ غضب أصحابه إلى رحمة، وحول جهل الرجل إلى علم يمنعه من ارتكاب شيء مخزي كالذي فعله.
ولكن لا أستطيع أن أغفل الجانب الآخر من الحقيقة، فاللين واللطف قد يكونان في بعض الأحيان، بوابة تفتح على صاحبها المتاعب، نتيجة النفوس الضعيفة التي تسيء فهم الفضائل الخلقية، فتراها علامة ضعف أو قلة حيلة، ورغم أن هذه المعادلة تسبب صراعًا ذاتيا لأصحاب الأخلاق النبيلة، لكن لو أتيح لنا أن نسأل من سبقونا، ماذا تعتقدون أننا سنسمع؟ بلا شك ستكون الإجابة أن ملامح حياة النبي ﷺ لم تكن أبدًا سببًا في شقاء البشر، وإنما منهج يفتح لهم سبل النجاة، فما يلقاه الإنسان من مشقة بسبب حلمه ولطفه ليس سوى اختبار لصدق نواياه ومدى عمق تلك الفضائل داخله "لِيَمْحِصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا"، فالعبرة بما يؤول إليه الحال والخواتيم هي التي تكشف ثمرة العمل الشاق.
فرغت من قراءة مقال صديقي الذي أراه تحفة فكرية، تجسد ببراعة جانبًا عميقًا من حياة النبي ﷺ، وأهمية الاحتفال بذكرى مولده ﷺ باستلهام هذه المعاني في مسار حياتنا اليومية، هذه المعاني التي لو تغلغلت في نفوسنا لكفتنا الكثير من عناء مواقف الحياة وتقلبات الأيام، فاللين واللطف لو تجسدا في أفعالنا، لكانتا البلسم الشافي لكل ما يوجع نفوسنا، فالنية الصافية ليست تلك النوايا الداخلية، بل هي القوة التي تحرك أفعالنا حيث تصبح العلاقات أكثر نقاءً والتعاملات أكثر إنسانية.