لم تعد الدول تُقاس فقط بقوتها العسكرية أو الاقتصادية فقط، بل بقدرتها على حماية بنيتها الرقمية من الهجمات الإلكترونية التي لا تعرف حدودًا، ومصر، بتاريخها العريق واستراتيجيتها الطموحة، لم تكن بمنأى عن هذا التحدي العالمي، بل أظهرت قدرة فريدة على التكيف مع متطلبات العصر الرقمي، فاستثمرت في بناء منظومة أمنية سيبرانية متكاملة، تجمع بين التشريعات الصارمة، والتكنولوجيا المتطورة، والكوادر المؤهلة، هذه الجهود الممنهجة لم تجعلها فقط في مصاف الدول الرائدة في هذا المجال، بل دفعتها لتحقيق مكانة عالمية مرموقة في تصنيفات الأمن السيبراني، ما يؤكد أن الأمن الرقمي بات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجياتها الوطنية.
بدأت مصر رحلتها في مواجهة تحديات الأمن السيبراني منذ سنوات، عندما بات الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية ضرورة لا غنى عنها في جميع القطاعات، ومع هذا الاعتماد المتزايد، ازدادت التهديدات السيبرانية التي تستهدف المؤسسات والبنى التحتية الحساسة، من البنوك إلى الجهات الحكومية، ورغم هذه التحديات، كانت هناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة سياسات الأمن السيبراني بطريقة تواكب التطورات المتسارعة وتضمن حماية المعلومات والبيانات الحساسة.
في عام 2016، كانت نقطة التحول الكبرى عندما أطلقت الدولة رؤيتها الطموحة لعام 2030، وهي رؤية لم تهمل البعد الرقمي، بل جعلت من الأمن السيبراني ركيزة أساسية لضمان استدامة التقدم في مختلف القطاعات، هذه الرؤية وضعت الأسس لإنشاء استراتيجية وطنية متكاملة للأمن السيبراني، استراتيجية تقوم على تطوير البنية التحتية، الاستثمار في التعليم وبناء الكوادر المتخصصة، وتعزيز التعاون مع المجتمع الدولي.
وفي هذا الإطار جاء تأسيس المجلس الأعلى للأمن السيبراني عام 2017، كهيئة تشرف على تنسيق الجهود الوطنية، وتضع السياسات العامة، وتضمن توفير الحماية اللازمة للبنية التحتية الحيوية.
من هنا، بدأت مصر في اتخاذ خطوات جادة نحو تعزيز إمكانياتها في مواجهة التهديدات الرقمية، ولم يكن ذلك يقتصر على الجوانب التقنية فقط، بل تزامن مع إصدار تشريعات وقوانين تنظم الأمن الرقمي، ففي عام 2018، تم إصدار قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي يعد من أهم القوانين لحماية الفضاء السيبراني المصري، كما تم إصدار قانون حماية البيانات الشخصية عام 2020، وهو القانون الذي يهدف إلى تنظيم عملية جمع وتخزين البيانات، وضمان خصوصية المستخدمين، هذه التشريعات كانت ضرورية لوضع إطار قانوني يحمي الحقوق الرقمية للأفراد والشركات.
الاهتمام بالتشريعات رافقه أيضًا استثمار كبير في العنصر البشري، إدراكًا من الدولة أن الأمن السيبراني لا يمكن أن يتحقق دون كوادر بشرية مؤهلة ومدربة، ولهذا أطلقت مصر مبادرات تعليمية متعددة مثل مبادرة "رواد تكنولوجيا المستقبل" التي تستهدف تدريب الشباب على أحدث التقنيات السيبرانية، كما تم إدراج تخصصات الأمن السيبراني في الجامعات المصرية، وتوسيع برامج التعليم التقني لتشمل المدارس الثانوية، مما أسهم في بناء جيل من الشباب قادر على مواجهة التحديات الرقمية بأحدث المهارات.
التعاون الدولي كان أيضًا جزءًا لا يتجزأ من هذه الرؤية، إذ أدركت مصر أن الأمن السيبراني قضية عالمية تتطلب التعاون عبر الحدود، ولهذا حرصت على تعزيز علاقاتها مع المنظمات الدولية والإقليمية المختصة في هذا المجال، وكانت من أوائل الدول الإفريقية التي وقعت على اتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم الإلكترونية، كما شاركت في العديد من المؤتمرات والمبادرات الدولية التي تهدف إلى تعزيز التعاون وتبادل الخبرات في هذا المجال، إلى جانب هذا التعاون، استضافت مصر مؤتمرات إقليمية ودولية مهمة، مما رسخ مكانتها كقوة إقليمية في مجال الأمن السيبراني.
في ظل هذه الجهود، شهدت مصر تطورًا ملموسًا في بنيتها التحتية التكنولوجية، حيث أنشأت مراكز بيانات متطورة تلبي المعايير الدولية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو مشروع مراكز البيانات في العاصمة الإدارية الجديدة، الذي يعكس رؤية طموحة لتطوير البنية التحتية الرقمية لتكون قادرة على مواجهة التهديدات السيبرانية وضمان حماية المعلومات والبيانات على أعلى مستوى من الأمان، هذه المراكز لا تقتصر على دورها في تخزين البيانات، بل تشكل جزءًا من البنية التحتية الوطنية التي تساهم في تعزيز الأمن الرقمي.
كل هذه الجهود أثمرت عن تحقيق مصر تقدمًا ملموسًا في المؤشرات الدولية، وفقًا لتقرير الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2021، احتلت مصر المركز 23 عالميًا في مؤشر الأمن السيبراني، والمركز الثاني على مستوى إفريقيا، وهو ما يعد إنجازًا يعكس التزام الدولة بالتنمية المستدامة في مجال الأمن الرقمي، لكن هذا الإنجاز لم يكن نهاية الطريق، بل كان بداية لمرحلة جديدة من التحديات والفرص، حيث تستمر التكنولوجيا في التطور، وتزداد التهديدات السيبرانية تعقيدًا، مما يفرض على مصر مواصلة تحديث بنيتها التحتية واستثمار المزيد في التعليم والتدريب، والاستعداد لمواجهة تحديات الحوسبة السحابية والبيانات الضخمة.
وكباحث متخصص أقول لحضراتكم أن قصة مصر مع الأمن السيبراني لم تكتمل بعد، فالطريق طويل ويحتاج إلى استمرارية الجهود وتوسيع نطاق الرؤية، إلا أن ما تم إنجازه حتى الآن يعكس قدرة الدولة على التكيف مع التحولات الرقمية العالمية، ويضعها في موقع الريادة على مستوى المنطقة، ليس فقط من حيث تطوير التكنولوجيا، بل أيضًا من حيث وضع المعايير القانونية والتنظيمية التي تضمن حماية حقوق الأفراد والشركات في الفضاء السيبراني، وهكذا تستمر مصر في رحلتها الطموحة نحو تحقيق الأمن الرقمي الشامل، في عالم لا يتوقف عن التغيير، ولكن النجاح الحقيقي يكمن في القدرة على مواجهة هذه التغيرات بمرونة وحكمة.
في المقال التالي نغوص معاُ في كيفية تطور الدولة المصرية حتى وصلت إلى هذه المكانة العالمية المرموقة، والتي وضعتها على جبهة المنافسة والتحدي مع الكبار، وأنتهز الفرصة لأوجه الشكر إلى السيد الرئيس الذي كانت رؤيته واضحة في هذا الشأن من اللحظات الأولى لتوليه المسؤولية، وللسادة في الأجهزة المختلفة، وللسيد وزير الاتصالات أظهر احترافية فائقة في إدارة هذا الملف الشائك حتى وصل بالدولة إلى مصاف الدول المتقدمة في هذا القطاع المهم للغاية.