جغرافيا الصراع.. كيف تُشكل النظام الدولي اليوم؟
قد ختُم المقال السابق بتساؤل حول جدارة النظام الدولي في حل الصراعات الجارية أو علي الافل تقديراُ تخفيف حدة آثارها؟ ، لذا سوف تركز هذه المقالة علي تناول الحرب الروسية الأوكرانية؛ لبيان تفاعلات النظام الدولي مع هذا الصراع متعدد الأطراف.
أدت حرب روسيا ضد أوكرانيا إلى مزيد من الانقسام في العالم وكشفت عن هوّة عميقة تفصل ميزان القوي العالمي. فقد تحولت الحرب في الأشهر الأخيرة، إلى نمطٍ من الاستنزاف المتبادل، حيث تجمدت خطوط القتال على مدى خطوط المواجهة التي يبلغ طولها نحو 600 ميلًا، خاصة في ظل غياب قدرة كل من القوات الروسية أو الأوكرانية على تحقيق اختراق كبير، وبالتالي أصبح الوضع الحالي أشبه بحرب الخنادق غير الحاسمة في الحرب العالمية الأولى، ولكنه يتخذ صورة حديثة منها؛ إذ يُوظف الطرفان تكتيكات غير تقليدية في الحرب، منها الطائرات المسيّرة (حرب مسيرات روسية-أوكرانية)، وتكتيكات الحرب اللامتماثلة.
وبناء على ذلك، سوف يركز المقال علي إيضاح كيف توسعت خطوط المواجهات الروسية- الأوكرانية خلال الأشهر الماضية؟ ، مع تحليل دور الفاعلين في المشهد العالمي، إلي جانب طرح سيناريوهات تطور الاحداث في احد اكثر الحروب استنزافاً .
إذ يمكن قراءة التطورات النوعية من منظور عسكري وجيواستراتيجي خاصة مع بروز تحركات جديدة قد تغيّر مسار الحرب الروسية الأوكرانية، فلم يردع أوكرانيا كون روسيا قوة نووية توغل قواتها في الأراضي الروسية والذي يعد اكبر هجوم بري علي دولة مسلحة نووياً، منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ ضغطت القوات الأوكرانية في 6 أغسطس بتوغلها في العمق الروسي في كورسك من خلال سومي حيث اجتازت الحدود عبر اقتحام1000 من القوات الأوكرانية وتمكنت القوات الأوكرانية في أسبوعين من التوغل حتي عمق 32 كم والسيطرة علي 100 بلدة بواقع 1200 كم ، وهي مساحة تساوي ما سيطرت عليه روسيا منذ بداية عام 2024 في أوكرانيا ، مع اخلاء 200 الف نسمة بيوتهم ، وإعلان حالة الطواري في كورسك وبيلغورود ، وأيضا اسر المئات من القوات الروسية. يعد هذا التوغل الاوكراني هو الأسرع منذ بدء انطلاق الصراع في 2022.
كما أنشأت أوكرانيا مراكز عسكرية وإدارية في مدينة سودجا التي سيطرت عليها بالكامل كما نجحت في تدمير عدد من الجسور عبر نهر سيم كانت تستخدم لإمداد المواقع الروسية في كورسك، وتنشر أوكرانيا حاليا في كورسك حوالي 30 ألف جندي.
وبهذا النهج قد تجاوزت أوكرانيا كل الخطوط الحمراء الروسية والغربية، واقدمت علي ما يمكن اعتباره مغامرة بدون وضوح كيف تنوي ترجمة هذا النجاح التكتيكي إلي مكاسب استراتيجية او سياسية، وبالتالي تعددت التساؤلات حول أهداف هذه العملية وإذا ما كانت أوكرانيا بالفعل قادرة علي الحفاظ علي أهدافها ومكاسبها داخل العمق الروسي بالموازاة علي الحفاظ علي أراضيها علي جبهات القتال الرئيسية حيث تستمر روسيا في التقدم وتحقيق مكاسب تكتيكية.
تأسيسا علي ذلك، ووفقاً للعديد من التقديرات، فان الأهداف الأوكرانية من هذا التطور النوعي لهذه العملية سواء من منظور عسكري أو جيواستراتيحي يتمثل في :
أولاً، إقامة منطقة عازلة حماية السكان عند الحدود، وبالمناطق الشرقية.
ثانياً، تشتيت وخلخلة القوات الروسية وتحويل مسار الزحف الروسي من خلال اجبار روسيا على إرسال جزء من قواتها من الشرق الاوكراني حيث ساحة القتال الضارية، إلى جبهة كورسك.
إلا أنه وعلي النقيض من ذلك، فقد سحبت أوكرانيا افضل قواتها من خطوط المواجهة في خاركيف ودونتيسك، وذلك لإرسالها إلي كورسك، في حين كثفت روسيا حشد قواتها في الشرق دونتسيك ، بوكروفسك الاستراتيجية والتي تعد نقطة امداد لوجستية أساسية للقوات الأوكرانية، كونها تقع علي طول الطريق لعدد من المدن الاستراتيجية دونيستك.
وإذا تمكنت القوات الروسية من التقدم والسيطرة علي كراماتورسك ؛ فيكون قد سيطرت علي دونيستك و لوغانسك بالكامل مما سيتيح لها التعمق والتركيز علي جبهات اخري، وبالتالي قد يكون من الصعب علي أوكرانيا ان تحقق التوازن إبان جبهات القتال الرئيسية والجبهة الفرعية التي قامت بفتحها خلال توغلها في كورسك.
ثالثاً، إظهار أوكرانيا أنها قادرة علي مواصلة القتال، بما يعزز من قدراتها التفاوضية وبما يجبر روسيا على التفاوض لعملية تبادل أراضي محتلة في ضوء التوغل الاوكراني في منطقة كورسك بنحو 1200 كم.
رابعاً، استغلال الوضع الميداني شديد التعقيد لتغيير معطيات المعادلة، حيث قد سعي رئيس أوكرانيا لتوظيف الزخم العسكري وتقدم قواته في كورسك للضغط على الجانب الغربي لرفع القيود والسماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الغربية بضرب اهداف على الأراضي الروسية، وهي خطوة كفيلة لقلب موازين الحرب، وقد أيدت المملكة المتحدة وفرنسا بينما تعارضها الولايات المتحدة وألمانيا
وانطلاقا من هذا الهدف، قد يكون من المفيد تحليل الفاعلين داخل الصراع الروسي الاوكراني، فقد يتبلور دور الولايات المتحدة والدول الاوربية، في تقديم الدعم والمساعدات لأوكرانيا، وهو ما ساهم في تعقيد المشهد وطول آمد الصراع؛ إذ يراهن كلا المعسكرين، الغربي بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا، وفي المقابل معسكر روسيا، على حسم الصراع لصالحه من خلال الحصول علي الدعم والمساعدات العسكرية أو الاغاثية، إلا ان هذا الموقف بات يشهد تغييراً كبيراً وذلك بالنظر لدخول ملفات جديدة فرضت نفسها على الساحة الدولية واستطاعت التأثير بدرجة ملحوظة في الدعم المقدم لكلا الطرفين.
وهو ما تجلي بوضوح في ضوء زيارة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى الولايات المتحدة الامريكية للقاء الرئيس جو بايدن، التي قد يشبّه اللقاء الذي جمع بين توني بلير وجورج دبليو بوش في عام 2002 قبل غزو العراق، وقدم بلير حينها دعمًا دوليًا لبوش، ما ساعد في شن الحرب وقتئذن، وبالتالي قد ينُظر للقاء ستارمر وبايدن بأنه من الممكن أن يكون له تأثير مماثل، حيث قد يستخدم الغرب هذه الزيارة لتبرير استخدام أوكرانيا للصواريخ الغربية لضرب روسيا؛ وهو ما قد يزيد من التوترات الدولية ويضعف فرص إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بطرق دبلوماسية.
وعلي الجانب الآخر، فقد عمقت موافقة إيران على توريد طائرات بدون طيار لروسيا، من تصاعد حدة التجاذبات الدولية، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات أمريكية وبريطانية جديدة على إيران، كما ان هذا التطور قد يعزز من احتمالية اتخاذ قرارات غربية أكثر حسمًا لصالح أوكرانيا، بما في ذلك توسيع نطاق عملياتها العسكرية.
وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات جادة على نهاية وشيكة للحرب الأوكرانية بسبب ضبابية الأهداف المأمولة لأطرافها وفاعليها على حد سواء، الأ انه وبعد استقراء المسار التكتيكي والعسكري للعملية الأخيرة، وتحليل الفاعلين في الصراع الروسي الاوكراني، من الممكن طرح سيناريوهات عدة تتمثل في الآتي: -
أولاً، يتضمن هذا السيناريو، محاولة التمسك بالأراضي التي تم الاستيلاء عليها، حتى التقدم أكثر من أجل سحب مزيد من القوات الروسية من أوكرانيا، والحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية، كالتهديد باستهداف محطة كورسك للطاقة النووية التي تقع علي بعد ٦٠٠ متر علي الحدود الروسية الأوكرانية، والتي تعد من بين اكبر ثلاث محطات نووية في روسيا وبين اربع محطات تنتج الكهرباء والتي تؤمن ٨٠ %من إجمالي الاحتياجات في مدينة كورسك للكهرباء، وقد تسعي أوكرانيا للسيطرة علي هذه المحطة لاستخدمها كورقة ضغط اثناء مفاوضات وقف اطلاق النار مقابل تخلي روسيا عن محطة زاباروجيا للطاقة النووية منذ مارس 2022، ولكنه سيناريو محفوف بالمخاطر.
أما السيناريو الثاني فهو تراجع الجانب الاوكراني وإنقاذ القوات وإعادة تجهيزها والتوقف مؤقتا عن الاستمرار في التقدم نتيجة تأرجح المساعدات الغربية علي خلفية إعادة ترتيب أولويات كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لأوجه إنفاقهما وهو ما برز خلال تعثر الاتحاد الأوروبي في الوصول لتوافق على حزمة مساعدات لأوكرانيا قُدرت بنحو 50 مليار يورو وأيضا تعليق مجلس الشيوخ الأمريكي حزمة مساعدات لأوكرانيا قُدرت بنحو 61 مليار دولار، وعلي الجانب الآخر تجميد روسيا الصراع وانتظار مفاوضات وقف إطلاق النار لاسيما مع اقتراب للانتخابات الرئاسية الامريكية التي قد تعيد الرئيس الأمريكي السابق ترامب المتعهد بوقف تقديم المساعدات العسكرية الامريكية إلي أوكرانيا من جهة ، والقيام بالعديد من الإصلاحات في الداخل وتعزيز التعاون مع كوريا الشمالية والصين من جهة آخري.
وأما السيناريو الثالث، فيستند على الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أمناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية، لتوفير دعم مدفعي ولوجيستي أفضل، وتأمين قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل، خاصة في ضوء تقدم روسيا النسبي ، وافتقارها القدرة الحاسمة التي تمكنها من اجتياح أوكرانيا، وبالتالي سوف تركز علي الاحتفاظ بما تحتله حالياً، مستغلة الوقت لتعزيز دفاعاتها، وقد يعد هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً.