كيف نرد على من يزعم أن والدي النبي ماتا على الجاهلية؟، سؤال أجابته دار الإفتاء المصرية من خلال بيانها سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي تحل ذكرى مولده الشريف الأحد المقبل.
الرد على من يزعم أن والدي النبي الكريمين ماتا على الجاهلية
وقالت إن ما عليه جماهير الأمة وعلماؤها اتفاقًا أن والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنان ناجيان، بل هما خلاصة أهل الإيمان.
وتابعت: للشريعة مزيد اعتناء بالإشادة باصطفاء أصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخيريتهم، وأهليتهم لحمل النور النبوي، بأدلة متواترةٍ يُعلَم منها أن الحق الذي يجب اعتقادُه ولا يجوز غيرُه، وعليه جماهير الأمة خلافًا لمن زلَّ: أن والدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنان ناجيان، بل هما خلاصة أهل الإيمان؛ لأنهما لنور النبوة مستودَعان، وقد اختارهما الله لأبوة سيد الأكوان.
فهما من الساجدين الذين قال الله في حقهم: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 219].
قال الإمام الماوردي في "أعلام النبوة" (ص: 201، ط. دار الهلال): [قال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قول الله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾: أي: تقلبك من أصلاب طاهرة مِن أبٍ بعدَ أبٍ، إلى أن جعلتُك نبيًّا، وقد كان نورُ النبوة في آبائه ظاهرًا] اهـ.
وهما مِن المصطفَيْنَ الأخيار، الذين افتخَرَ بالانتساب إليهم المختار، صلى الله عليه وآله وسلم:
فأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»، ورواه الخطيبُ في "الموضح"، والدِّمياطيُّ في "معجمه" فقال: «وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
وأخرج ابن سعد في "طبقاته" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَيْرُ الْعَرَبِ مُضَرُ، وَخَيْرُ مُضَرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَخَيْرُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ بَنُو هَاشِمٍ، وَخَيْرُ بَنِي هَاشِمٍ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللهِ مَا افْتَرَقَ فِرْقَتَانِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ آدَمَ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا».
وأخرج الحاكم في "المعرفة" -وعنه البيهقي في "الدلائل"- والسِّلَفيُّ في "الطيوريات" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْنِ إِلَّا جَعَلَنِي اللهُ فِي الْخَيْرِ مِنْهُمَا، حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي وَأُمِّي، فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَسَبًا وَخَيْرُكُمْ أَبًا»، وجزم به الحاكم في "المعرفة" واحتج به.
وروى أبو زرعة الدمشقي، عن عمرو بن قيس السَّكُوني -تابعي جليل؛ أدرك سبعين صحابيًّا- أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اخْتَارَ اللهُ مِنَ النَّاسِ الْعَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ كِنَانَةَ، وَاخْتَارَ مِنَ كِنَانَةَ النَّضْرَ، وَاخْتَارَ مِنَ النَّضْرِ عَبْدَ مَنَافٍ، وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمًا، وَاخْتَارَ مِنْ هَاشِمٍ عَبْدَ المُطَّلِبِ، وَاخْتَارَ مِنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَبْدَ اللهِ، وَاخْتَارَ مِنْ عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدًا». وذكره الواقدي في "فتوح الشام" من قول خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وأخرج البزار في "مسنده"، وابنُ شاذان -كما في "ذخائر العقبى" للمحب الطبري- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل ناس من قريش على صفيةَ بنتِ عبد المطلب رضي الله عنها، فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفيةُ رضي الله عنها: مِنّا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: تنبت النخلة -أو الشجرة- في الأرض الكِبَا، فقالت: وما الكِبَا؟ قالوا: الأرض التي ليست بطيبة، فذكرَتْ ذلك صفيةُ رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغضب وقال: «يَا بِلالُ! هَجِّرْ بِالصَّلاةِ»، فهجَّر، فقام صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فنادى بصوت فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ أَنَا؟» قالوا: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: «انْسُبُونِي»، قالوا: محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلب، قال: «أَجَلْ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَنَا رَسُولُ اللهِ، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَبْتَذِلُونَ أَصْلِي! فَوَاللهِ إِنِّي لَأَفْضَلُهُمْ أَصْلًا، وَخَيْرُهُمْ مَوْضِعًا»، فلما سمعت الأنصارُ بذلك قالت: قوموا فخذوا السلاح؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أُغضِبَ، فأخذوا السلاح ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلمنه لا يُرَى منهم إلا الحَدَقُ، حتى أحاطوا بالناس، فجعلوهم في مثل الحَرّة، حتى تضايقت بهم أبوابُ المسجد والسكك، ثم قاموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله! لا تأمرُنا بأحدٍ إلّا أبَرْنا عترته، فلما رأى النفرُ من قريش ذلك قاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذروا وتنصلوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «النَّاسُ دِثَارٌ، وَالأَنْصَارُ شِعَارٌ» فأثنى عليهم وقال خيرًا. وقد استشهد بهذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كالسخاوي في "ارتقاء الغرف"، والسيوطي في "مسالك الحنفا".
وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال: "بلغ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ قومًا نالوا منه؛ فقالوا: إنما مثلُ محمد كمثل نخلة نبتت في كُنَاس! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلًا، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا»، ثم قال: «أَنَا خَيْرُكُمْ قَبِيلًا وَخَيْرُكُمْ بَيْتًا». ورواه الإمام أحمد وغيره عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث.
وأخرج ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الدلائل" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام: قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "أماليه": [لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن، ومن المعلوم أنّ الخيريةَ والاصطفاءَ والاختيارَ من الله والأفضليةَ عنده: لا تكون مع الشرك] اهـ من "مسالك الحنفا" للسيوطي -في "الحاوي للفتاوي" (2/ 256، ط. دار الفكر)-.
قال شيخ الإسلام البيجوري (ت1276هـ) في "تحفة المريد" (ص: 68، ط. دار السلام): [جميع آبائه وأمهاته صلى الله عليه وآله وسلم ناجون، ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر ولا رجس ولا عيب ولا شيء مما كان عليه الجاهلية؛ بأدلة نقلية؛ كقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمْ أَزَلْ أَنْتَقِلُ مِن الْأَصْلَابِ الطَّاهِرَاتِ إِلَى الْأَرْحَامِ الزَّاكِيَاتِ»، وغير ذلك من الأحاديث البالغة مبلغ التواتر] اهـ.
فآباؤه وأمهاته صلى الله عليه وآله وسلم موصوفون بالسجود والاصطفاء والخيرية، وأحد هذه الأوصاف كافٍ في الدلالة على الإيمان ونفي خلافه، فكيف باجتماعها! وقد سلَّم الله على المصطفَيْنَ فقال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59].
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن الافتخار بالآباء غير المؤمنين؛ فقال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ -أي: تكبُّرَها وتجبُّرَها- وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وافتخاره صلى الله عليه وآله وسلم بشرف أصوله، وخيرية آبائه، يستلزم إيمانهم؛ إذ حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتخر بما نهى عنه.
قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى": [إن العارف المحقق سيدي محيي الدين بن العربي (ت632هـ) قال: إن أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن المصطَفَيْنَ الأخيار، ومن الأكابر الأبرار، وسندُه: ما ذكره مسلمٌ مِن حديث الاصطفاء، وما ذكره البخاري مِن حديث كونه صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثًا في خير القرون، والأحاديث الواردة في الاصطفاء والخيرية؛ فإنهما يستلزمان الإسلام، بل يدلان على عدم صدور الذنب] اهـ نقلًا عن العلامة البرزنجي في كتاب "سداد الدين" (ص: 92، ط. دار الكتب العلمية).
وسئل القاضي أبو بكر بن العربي (ت543هـ) عن رجل قال: إن أبا النبي في النار! فأجاب: بأنّ مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى: ﴿إنّ الذين يُؤذُونَ اللهَ ورَسُولَه لَعَنَهم اللهُ في الدنيا والآَخِرةِ وأَعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]، قال: [ولا أذًى أعظم من أن يقال عن أبيه صلى الله عليه وآله وسلم إنه في النار] اهـ من "مسالك الحنفا" في "الحاوي للفتاوي" (2/ 279).