سؤال بات يفرض نفسه على المشهد الاقتصادي العالمي، ويثير قلقًا متزايدًا في مختلف أوساط المجتمع، فمع كل تطور جديد في تقنيات الذكاء الاصطناعي، يزداد الخوف من احتمالية أن تحل هذه التكنولوجيا محل الإنسان في العديد من الوظائف. لكن، هل هذا القلق في محله؟ وهل المستقبل يحمل فعلاً تهديدًا لوظائف البشر؟ أم أن هناك جوانب أخرى للموضوع تستحق التأمل والتفكير قبل إصدار الأحكام؟ دعونا نرى معاً في هذ المقال.
عندما ننظر إلى سوق العمل في العقود الأخيرة، نجد أن هناك نمطًا متكررًا، يتمثل في أن كل تطور تقني يحمل في طياته تغييرات جذرية في نمط العمل والإنتاج، من الثورة الصناعية الأولى، التي حلت فيها الآلات محل العمال اليدويين في المصانع، إلى الثورة الرقمية، التي جعلت من الحواسيب شريكًا أساسيًا في عمليات الإنتاج، إلا أن ما نراه اليوم مع الذكاء الاصطناعي يمثل قفزة نوعية تتجاوز مجرد أتمتة بعض الوظائف، ليصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على التعلم واتخاذ القرارات وتحليل البيانات بطرق تفوق القدرات البشرية في كثير من الأحيان.
يجب أن نفهم أولاً أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية واحدة، بل هو منظومة متعددة الأوجه تشمل التعلم الآلي، التعلم العميق، تحليل البيانات الكبيرة، ومعالجة اللغة الطبيعية، وغيرها من الفروع، وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يتغلغل في مختلف القطاعات الاقتصادية.
في قطاع الخدمات المالية، مثلاً، بدأت الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي تحلل البيانات المالية وتحلل أسواق الأسهم، وتتنبأ بحركات السوق بشكل أسرع وأكثر دقة من البشر.
وفي المجال الطبي، بدأت التطبيقات الذكية تقدم تشخيصات دقيقة، وتحلل الصور الطبية، وتساعد في تطوير خطط علاجية معقدة.
وفي قطاع النقل، نرى أن السيارات ذاتية القيادة باتت ليست فكرة خيالية بل واقعًا ملموسًا قد يغير شكل العمل في هذا القطاع بشكل جذري.
لكن، إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على القيام بكل هذه المهام بكفاءة، فهل يعني ذلك أن العمالة البشرية ستصبح زائدة عن الحاجة؟ هنا يجب أن نعود إلى نقطة جوهرية في تاريخ التطور التكنولوجي، وهي أن التكنولوجيا على مدار التاريخ لم تؤدِ بالضرورة إلى إلغاء الوظائف بقدر ما ساهمت في إعادة تشكيلها. بمعنى آخر، قد تتلاشى بعض الوظائف التقليدية التي يمكن أتمتتها بسهولة، ولكن في المقابل، ستظهر وظائف جديدة تتطلب مهارات جديدة.
لنأخذ مثالًا من التاريخ، مع بداية الثورة الصناعية الأولى، كان هناك خوف مماثل من أن الآلات ستحل محل العمال، لكن مع مرور الوقت، خلق التصنيع وظائف جديدة في المصانع، وظهرت حاجات إلى مشرفين على الآلات، ومهندسين لتطويرها، ومديرين للإشراف على الإنتاج. بنفس الطريقة، اليوم نحن نشهد تحولًا مشابهًا؛ صحيح أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تقليص الحاجة إلى بعض الوظائف، لكنه في الوقت ذاته يخلق فرصًا جديدة في مجالات مثل تطوير البرمجيات، وإدارة البيانات، وتحليل الأنظمة، وتطوير الذكاء الاصطناعي نفسه.
وهنا يكمن التحدي الحقيقي، وهو أن التحول الذي يحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي أسرع بكثير مما كان عليه في السابق، الثورة الصناعية أخذت عقودًا لتتجذر وتعيد تشكيل سوق العمل، أما الذكاء الاصطناعي فهو يتقدم بسرعة هائلة، هذه السرعة تعني أن العديد من الأفراد الذين يعملون في وظائف قديمة قد يجدون أنفسهم غير قادرين على التكيف بالسرعة المطلوبة.
هنا يكمن القلق الحقيقي، وهو أن الفجوة بين المهارات المطلوبة في سوق العمل وبين ما يمتلكه الأفراد حاليًا قد تتسع بشكل كبير، ما يؤدي إلى ارتفاع نسب البطالة، خاصة في الفئات العمرية الكبيرة التي تجد صعوبة في اكتساب مهارات جديدة بسرعة.
ولمعالجة هذه المشكلة سيكون من المهم أن ندرك أن التعامل مع هذا التحدي ليس مسؤولية فردية فقط، بل هو تحدٍ مجتمعي وحكومي؛ لأن الحكومات والشركات بحاجة إلى اتخاذ خطوات جدية للتكيف مع هذا التحول، يبدأ من خلال توفير برامج تعليمية وتدريبية متقدمة تُمكن الأفراد من اكتساب المهارات المطلوبة في عصر الذكاء الاصطناعي ويقدمها مهندسون متخصصون، ليس فقط مجرد مستخدمين للأدوات ممن نراهم اليوم يطفون على السطح.
أيضًا يجب على الحكومات أن تساهم في حماية العمال من التأثيرات السلبية لهذا التحول من خلال وضع سياسات دعم اجتماعي، وإعادة تنظيم أنظمة العمل بما يضمن تحقيق التوازن بين الأتمتة وخلق فرص عمل جديدة. هذا من جانب.
أما الجانب الآخر والذي يطرح في مقدمته السؤال الأوسع: إلى أي مدى يمكن أن يصل الذكاء الاصطناعي في قدراته؟ وهل سنصل إلى مرحلة يتم فيها استبدال العقل البشري بالكامل؟.
هنا يجب أن نتحلى بالواقعية؛ وأقول رغم التطور الهائل الذي شهدناه في السنوات الأخيرة، لا يزال الذكاء الاصطناعي في مرحلة بدائية مقارنة بقدرات العقل البشري، قد يكون قادرًا على تحليل البيانات واتخاذ قرارات معقدة بناءً على تلك البيانات، لكنه يفتقر إلى البديهة، والإبداع، والقدرة على التعامل مع المتغيرات التي لا يمكن التنبؤ بها. هذه السمات البشرية هي ما تجعل الإنسان فريدًا، وهي التي ستبقى مفتاحًا لدوره المستقبلي في سوق العمل.
إضافةً إلى ذلك، هناك أيضًا البعد الأخلاقي الذي لا يمكن تجاهله؛ الذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات والمعلومات التي يتم إدخالها فيه، وبالتالي، فإن أي انحياز أو تحيز في هذه البيانات قد يؤدي إلى قرارات غير عادلة أو مضللة، هذا يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول ضرورة مراقبة وتوجيه استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة تخدم الإنسان، وتضمن أن تبقى مصلحة البشر هي الهدف الأول وليس تحقيق مكاسب اقتصادية فقط، وقد تحدثت باستفاضة حول هذا الموضوع في ورقة بحثية نشرتها عبر المجلة العلمية لدراسات الإعلام الرقمي والرأي العام بعنوان "الدراية بالذكاء الاصطناعي في الصحافة.. الأشكال والآليات والتحديات الذكاء الاصطناعي".
نعود إذًا إلى السؤال الرئيسي: هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظائفنا؟ الإجابة ليست نعم أو لا، بل هي أكثر تعقيدًا من ذلك، الذكاء الاصطناعي سيغير شكل سوق العمل بالتأكيد، وسيؤثر على طبيعة العديد من الوظائف، لكن بدلًا من أن يأخذ وظائفنا بالمعنى الحرفي، يمكن القول إنه سيعيد تشكيلها.
البعض سيجد نفسه مضطرًا لاكتساب مهارات جديدة، والبعض الآخر سيجد فرصًا جديدة في مجالات لم تكن موجودة من قبل، الأهم هو أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للإنسان، بل هو أداة في يده، الأداة التي يمكن أن تكون نعمة إذا استخدمناها بشكل صحيح، أو نقمة إذا تجاهلنا التحديات المصاحبة لها.
لذلك، المطلوب هو رؤية شاملة ومستقبلية تأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التحول، ويجب أن نعمل معًا – حكومات، شركات، ومؤسسات تعليمية – لضمان أن يكون هذا التحول إيجابيًا وأن يتمكن الجميع من الاستفادة من الفرص التي يوفرها.
الذكاء الاصطناعي قد يحمل لنا مستقبلًا مليئًا بالإمكانيات، لكن المفتاح في أيدينا نحن لنوجهه في الاتجاه الصحيح، ونتجنب الآثار السلبية التي قد تنجم عن سوء استخدامه أو استغلاله.