قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

صدى البلد

محمود حبيب يكتب: الساحل المتصالح بين سيف الدفاع وادعاءات القرصنة

محمود حبيب
محمود حبيب
×

الغوص في أعماق التاريخ ليس مجرد هواية، بل هو استثمار في فهم أنفسنا وعالمنا، فالأحداث الحالية هي نتاج تراكمات الماضي، وفهم هذه التراكمات هو مفتاح التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرارات الصائبة.

وعند استعراض حلقات الصراع التي شهدتها المنطقة العربية في العصر الحديث مع بداية القرن السادس عشر، وتحديدًا مع بداية وصول القوى الاستعمارية الأوربية إلى منطقة الخليج العربي، وعلى رأسها الأسطول البرتغالي في عام 1507 بقيادة "ألبوكيرك"، الذي الحق أضرارًا بالغة بهذه المنطقة، والتي بدأت بسياسة الأرض المحروقة والهجمات البربرية التي شنها البرتغاليين على سواحل الخليج العربي لتدعيم سلطتهم في مدينة "هرمز"، من أجل السيطرة الكاملة على طريق التجارة بين الهند وأوروبا عبر الخليج العربي، وظلت مدينة "هرمز" تحت سطوة البرتغاليين لمدة قرن من الزمان، مارس خلاله البرتغاليين سياسة احتكارية في التجارة، وهو ما جعل وجودهم مصدرًا لغضب القوى المحلية والخارجية على السواء، نتيجة السياسة الاحتكارية التي انتهجها البرتغاليون في التجارة.

ولم يكن جلاء البرتغاليين عن ساحل الخليج العربي على يد القوة العربية، نهاية الاستعمار الأوربي، وإنما أعقبهم البريطانيون، الذين اتبعوا أسلوبًا أكثر دهاء، مستندين على ذريعة حماية أسطولهم التجاري من هجمات القرصنة، والتي كانت في واقعها أنشطة بحرية تقوم بها القبائل العربية التي تسكن هذه المنطقة للدفاع عن أراضيها، ولعل المتتبع لفكرة القرصنة التي روج لها الوجود البريطاني، يجد أنها بمثابة سلاح استعماري وأسطورة وهمية لفرض السيطرة على سواحل الخليج العربي، لقربها من مستعمرات بريطانيا الأهم في "شبه القارة الهندية"، كما تشير الأدلة التاريخية إلى أن هذه الادعاءات لم تكن سوى ذريعة للتوسع الاستعماري والسيطرة على منطقة ذات أهمية تجارية واستراتيجية.

بعد طرح هذه الفكرة، يتبادر إلى الذهن سؤال محوري: هل هناك أدلة قاطعة تدعم المزاعم البريطانية بوجود أعمال قرصنة في الخليج العربي تستوجب تدخلاً عسكرياً؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نفحص بدقة مدى انتظام علميات القرصنة، ونحلل العوامل التي دفعت لتنفيذها، وفي اعتقادي أن هذا التحليل سيساعدنا في فهم السياق السياسي والاقتصادي الذي نشأت فيه هذه العمليات، ويكشف عن المؤثرات التي ساهمت في تشكيل هذه العمليات.

أولًا: الانتظام في الأنشطة البحرية التي قامت بها القبائل العربية في الخليج العربي، فقد سلكت القبائل العربية المسلك الشرعي الذي تسلكه الشعوب في مواجهة الاستعمار، فأخذت تُظهر بسالتها على طول سواحل الخليج، في محاولة إعاقة توسع الاستعمار الذي تمثل في البرتغاليين الذين سبقوا مجيئ البريطانيين إلى هذه السواحل، ولعل طرد البرتغاليين على يد دولة اليعاربة والقبائل العربية، دليل أن العلميات التي كانت تمارس هي دفاع عن سواحلهم التي تحاول القوى الاستعمارية السيطرة عليها، ودفع خوف البريطانيين من بسالة المقاومة العربية والتي تمثل قوة لا يستهان بها، إلى تحريف الحقائق ووصف أعمال المقاومة بأنها هجمات قرصنة بدافع السلب والنهب، كما يرد على هذه الفكرة أيضًا توقيع اتفاقية السلام التي تمت بين بريطانيا وشيوخ القبائل العربية، فهي تثبت بما لا يدع مجال للشك، أن بريطانيا أمام قوى عربية وطنية لا مجموعة من القراصنة، والمثير للسخرية في وصف الأعمال البحرية ذاتها، أنه عندما يقوم بها الأوروبيون، تصنف على أنها بطولات تستحق التقدير والتكريم، ولكن إذا ارتبطت هذه الأعمال بشعوب تقاوم وتدافع عن أرضها، فإنها تتحول فجأة إلى أعمال سلب ونهب! والحقيقة أن هذا التناقض الصارخ يكشف عن معايير مزدوجة غريبة.

ثانيًا: لعبت الاتحادات القبلية دورا محوريًا في صياغة المشهد البحري في الخليج العربي، وقد تجسد هذا الدور بوضوح في تجربة القواسم الذين نجحوا في توحيد شتات العديد من القبائل تحت رايتهم، ورغم البداية السلمية لهذا الاتحاد، إلا أن التوغل البريطاني، أجبر القواسم على التحول تدريجياً نحو النشاط العسكري، دفاعًا عن مصالحهم وممتلكاتهم البحرية، وهو رد فعل طبيعي على الانتهاكات، وهو ما يتضح من وصف الرحالة الإنجليزي "بنكنجهام" حين قال بأن القواسم يتمتعون بصفات لا تتناسب مع أفعال القراصنة، لذا فإن قوة القواسم وأنشطتهم البحرية، كانت ضرورة تفرضها حتمية الدفاع عن الأرض، بينما حاولت الدعاية البريطانية تصوير المقاومة على أنها أعمال قرصنة، وحاولت الترويج لروايتها بشتى الطرق، واصفة هذه الفترة بـ "حقبة ساحل القراصنة" وهو ما ظهر من خلال كتاباتهم التاريخية والوثائق الإدارية والسياسية.

ثالثًا: دفعت الظروف السياسية في هذه الفترة، القبائل العربية إلى فرض سيطرتها على سواحل الخليج العربي، لحماية أمنها وتأمين تجارتها، ولعل الحادثة التي ذكرها "لوريمر" أحد مسؤولي شركة الهند الشرقية، بأن القواسم قاموا بالاستيلاء على إحدى السفن التابعة لشركة الهند الشرقية، وباعوا طاقم السفينة لسماسرة الرقيق، واظهرت فيما بعد المراسلات التي تمت بين المقيم البريطاني "جون بومونت" وبين الشيخ "راشد" زعيم القواسم، الذي أكد أن أسطوله التقى بهذه السفينة وكانت ترفع علم مسقط التي كانت تبادل القواسم العداء في تلك الفترة، لهذا تم احتجاز السفينة، وهو ما يعني أن الأسطول ارتاب من أمر السفينة، ما يعني أن التوجهات السياسية هي التي حددت سلوك القبائل، في تعاملاتها البحرية للحفاظ على أمنها وسيادتها، وبالتالي يمكن القول إن السواحل كانت تحت سيطرة القواسم، الذين كانوا يؤدون دورًا دفاعيًا لحمايتها، وهو دور أخلاقي وقيمي يتنافى مع تهمة القرصنة التي يقتصر هدفها على النهب بعيدا عن أية دوافع دينية وأخلاقية.

ورغم المناقشة المنطقية التي تفند ادعاءات القرصنة الوهمية التي اختلقها الوجود البريطاني، تجدر الإشارة إلى حقيقة تاريخية، وهي أن السيطرة على الملاحة في بحار الشرق عمومًا خلال العصر الذهبي للملاحة في الفترة من 750 إلى 1507، كانت من نصيب المسلمين، ما يعني أن القبائل في منطقة الخليج العربي كان لديها تاريخ بحري طويل، بعكس ادعاء الاستعمار بأنها عصابات تقوم بالسطو على السفن البحرية بغرض السلب والنهب، لهذا عمد الوجود البريطاني إلى خلق هذه الذريعة للوصول إلى هدفه، وليتنكر بأفعاله البشعة خلف أدعاء مزيف.