في أواخر السبعينيات، بدت الولايات المتحدة وكأنها قوة عظمى في حالة تراجع. تعرضت لأزمات ونكسات في جميع أنحاء العالم، وبدا أن قيادتها الدولية بعد الحرب العالمية الثانية تتلاشى تدريجيًا. ولكن بعد أكثر من عقد بقليل، بحلول أوائل التسعينيات، عادت الهيمنة الأمريكية على الساحة العالمية بشكل درامي.
انتهت الحرب الباردة بانتصار واشنطن وحلفائها، وانتشرت الأسواق الحرة بشكل غير مسبوق. كانت الولايات المتحدة تستمتع بلحظتها "الأحادية القطب" - وهي حقبة لم تواجه فيها واشنطن أي منافسين قريبين في السلطة والنفوذ العالمي، وكان السمة المميزة للسياسة الدولية هي الهيمنة الأمريكية.
وفي الوقت الحالي ومع احتدام الأحداث في أكثر من بقعة في العالم، يكافح خبراء السياسة الخارجية لوصف الطابع غير العادي للسياسة العالمية المعاصرة. يدور الكثير من الجدل حول مفهوم القطبية، الذي يتعلق بكيفية توزيع السلطة بين الدول، حيث يتساءل الخبراء عما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال قوة أحادية القطب أو في حالة تراجع مع بروز قوى جديدة.
خاضت أمريكا بكل ما لديها من قوة في القرن العشرين لتأكيد هيمنتها العالمية، وكانت التسعينيات تتويجًا لهذا الهدف. وبدلاً من النمط التقليدي للإمبراطوريات الذي يعتمد على الاستعمار المباشر، قامت أمريكا ببناء نظام يستند إلى المؤسسات والاتفاقيات التي تضمن استمرار نفوذها. وهذا النهج كان بنفس أهمية القواعد العسكرية التي نشرتها في جميع أنحاء العالم، حيث بلغ عددها 700 قاعدة.
من جانب ضمنت الأمم المتحدة لأمريكا شكلاً من أشكال الإجماع على قيادتها للنظام العالمي، بينما كانا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي علي الجانب الآخر يضمنان إعادة هيكلة الأسواق بما يحافظ على وجودها ضمن نطاقها الاقتصادي، ويغري حلفاءها بالبقاء قريبين منها، بحاجتهم الدائمة إليها. وبنفس الطريقة التي استخدمتها لخنق الاتحاد السوفيتي، فإنها تعمل اليوم على إعاقة الصين من بسط نفوذها الإقليمي، من خلال التحالف مع تايوان والهند وغيرها.
أنفق الأمريكيون 916 مليار دولار على الدفاع العسكري في العام الماضي، وهي النسبة الأعلى عالميًا، وتتجاوز ما تنفقه القوى الكبرى الأخرى مجتمعة. هذه نقطة قوة بلا شك، ولكنها في نفس الوقت نقطة ضعف.
الجدل الدائر الآن لا يختلف كثيرًا عن الذي دار في خمسينيات القرن الماضي. حيث حذرت وثيقة الأمن القومي الأمريكي في تلك الفترة من الفجوة المتزايدة بين القوة العسكرية لأمريكا والتزاماتها كقوة عظمى، وأنه إذا استمرت هذه الفجوة، فقد يتعرض العالم الحر لخطر الانهيار أمام الاتحاد السوفيتي.
شهدت أمريكا أزمات اقتصادية حادة في فترات لكنها تمكنت بعد كل منها من العودة أقوى. بالنظر إلى العقود الأربعة الماضية، سنجد أن حصتها من الإنتاج العالمي لا تزال حوالي الربع. صعود الصين أخذ من حصة أوروبا واليابان، وليس من حصة أمريكا.
كونك قويًا اقتصاديًا وعسكريًا لا يكفي للسيطرة على العالم. لكن أمريكا تتمتع بالأفكار والثقافة، وهو ما يسمى بالقوة الناعمة؛ أن تلهم العالم، وأن يكون لديهم طموح ليصبحوا مثلك. ما زال الناس يموتون في البحار والمحيطات محاولين الوصول إلى أمريكا.. إنه الحلم الأمريكي.
في المقابل، لا نغفل أن أمريكا انشغلت بحروب غير استراتيجية، أنفقت فيها الكثير من الأموال
وخسرت الكثير من سمعتها، وأثارت فيها مشاعر العداء المتزايدة، ولكنها في الوقت نفسه أفسحت المجال أمام صعود الصين وروسيا. بينما واصلت الصين نموها بهدوء، وسعت روسيا لتأكيد نفوذها الإقليمي بمهاجمة جورجيا ثم القرم وأوكرانيا.
مؤخراً، شهدنا عودة لكل من سلوك التوازن (أي الجهود الرامية إلى ردع أو هزيمة الولايات المتحدة) والسلوك المراجع (أي الجهود الرامية لتغيير الوضع الراهن) من قبل روسيا والصين. سعت موسكو لمنع التوسع الإضافي للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي من خلال التدخلات العسكرية والدبلوماسية القسرية في جورجيا وأوكرانيا وأرمينيا. وعدلت خريطة أوروبا من خلال ضم شبه جزيرة القرم، وهو أول عمل إحياء للأراضي هناك منذ الحرب العالمية الثانية. ومن جانبها، سعت الصين لتعديل الوضع الراهن البحري في بحر الصين الجنوبي من خلال عمليات في منطقة شعاب سكاربورو وشعاب توماس الثانية والمياه الفيتنامية، وكذلك بإظهار قوتها في بحر الصين الشرقي وأماكن أخرى. كما أنها توازن بشكل نشط ضد الولايات المتحدة من خلال بناء عسكري كبير، خاصة باستخدام أسلحة غير متكافئة لتقليص قدرات الإسقاط العسكري الأمريكية.
وختامًا، نتعلم من التاريخ للاستفادة به في المستقبل.. فالتجارب غالبًا ما تنهار ليس بسبب قلة الثقة بالنفس، بل بسبب الإفراط فيها والتراجع قد يحدث دون أن يلاحظه حتى أكثر الناس حرصًا. والقدرة على تجاوز الأزمات عدة مرات لا تعني أن تجاوز الأزمات هو صفة دائمة، بل قد تستغل الأزمات تلك الثقة المفرطة ضدك. ربما لم تدرك بريطانيا أنها لم تعد قوة عظمى إلا بعد فشلها في العدوان الثلاثي على مصر، وربما تفاجأت بأن هناك قوى أخرى أصبحت أقوى منها، وأنه لكي تحترم مكانتها، يجب أن تفسح المجال لصعود الآخرين.
والسؤال هنا.. بعد مرور ما يقرب من نصف قرن بعد وفاته، هل يصدق مؤسس الصين الشعبية، الزعيم الشيوعي ماوتسي تونج، حين قال: "أمريكا هي قوة عظمى متدهورة وخائفة من أن تتورط في قضايا العالم الثالث، وأصبحت غير قادرة بوضوح على أن تفرض هيمنتها"!