تحل اليوم ذكرى وفاة الإمام البخاري عالم الحديث، وفي السطور التالية نستعرض ما جاء في سيرة الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري.
ذكرى وفاة الإمام البخاري
وقالت الإفتاء في بيان منزلة الإمام البخاري إنه من أعظم الجهابذة والعباقرة الذين أنجبتهم مدرسة أهل الحديث في الإسلام: الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري [ت: 256هـ] صاحب "الصحيح"، رحمه الله تعالى ورضي الله عنه؛ هو أمير المؤمنين في الحديث، وأستاذ أهل الصنعة الحديثية، وإمام أئمة أهل الحديث في القديم والحديث؛ بهر أهل عصره ومن جاء بعدهم بحفظه وفهمه النافذ وبصره الناقد في علوم الحديث، وقد وُصِف بالحفظ من صباه وصغره؛ فروى الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 24، ط. دار الكتب العلمية) [عن سليم بن مجاهد قال: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال: لو جئتَ قبلُ لرأيتَ صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث، قال: فخرجت في طلبه حتى لقيتُه، فقلتُ: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل؛ أحفظه حفظًا عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وقد أجمع علماء المسلمين وأئمتهم ومحدثوهم عبر القرون على إمامته في علم الحديث وتقدمه فيه رواية ودراية؛ فممن نقل هذا الإجماعَ: الإمامُ الحافظ أبو عبد الله الحاكم [ت: 405هـ]؛ فقال فيما نقله عنه الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 71، ط. إدارة الطباعة المنيرية): هو إمام أهل الحديث، بلا خلاف بين أئمة النقل، والإمام الحاكم هو إمام أهل الحديث في عصره، كما قال الإمامان أبو حازم العبدوي الحافظ، وأبو الحسن الفارسي، وزاد: العارف به حق معرفته؛ نقله الذهبي في "تاريخ الإسلام" (28/ 127-128، ط. دار الكتاب العربي).
ونقله أيضًا الإمامُ النوويُّ شيخ الشافعية رحمه الله تعالى [ت: 676هـ] في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 71)؛ فقال: [واعلم أن وصف البخاري رحمه الله بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران، متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله: أن مُعْظَمَ مَن أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخُه الأعلام المبرزون، والحُذَّاق المتقنون] اهـ. وهذا إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة [ت: 311هـ] -وهو إمامُ أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، كما يقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 593، ط. دار الكتب العلمية)- يقدِّم الإمام البخاري في علم الحديث على كل من رآهم من علماء عصره؛ فيقول: ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث مِن محمد بن إسماعيل البخاري، وفي لفظ: ما رأيت تحت أديم السماء أحفظَ لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أعرَفَ به من محمد بن إسماعيل البخاري. خرجه الحاكم في "تاريخ نيسابور"، والحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 26، ط. دار الكتب العلمية)، والحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 65)، والحافظ شرف الدين بن المفضل المقدسي في "الأربعين على الطبقات" (ص: 294، ط. أضواء السلف)، والحافظ أبو بكر بن نقطة الحنبلي في "التقييد" (ص: 32، ط. دار الكتب العلمية)، وغيرهم.
ونقل الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي [ت: 507هـ] إجماعَ أهل الحديث قاطبة في عصر الإمام البخاري على تقدُّمه عليهم؛ فقال بعد ذكره كلامَ ابنِ خزيمة السابق: [وحسبك بإمام الأئمة ابن خزيمة يقول فيه هذا القول مع لُقِيِّه الأئمةَ والمشايخَ شرقًا وغربًا، ولا عجب فيه؛ فإن المشايخ قاطبة أجمعوا على قدمه، وقَدَّمُوُه على أنفسهم في عنفوان شبابه، وابن خزيمة إنما رآه عند كبره وتفرده في هذا الشأن] اهـ. نقله الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 70).
وهذه نبذة من أقوال أهل الحديث وأئمة المسلمين في الإقرار للإمام البخاري بالعلم والإمامة والتقدم في علم الحديث وتوثيقه، والطعن على من قدح فيه؛ فهذا إمام أهل السنة والصابر في المحنة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يَعُدُّه أحدَ المحدِّثين الأربعة الذين انتهى إليهم الحفظ؛ فيقول: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي، بل ويفضله عليهم جميعًا فيقول: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وهذا الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي [ت: 277هـ] -وهو الإمام الحافظ الناقد، شيخ المحدثين؛ كما يصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 247، ط. مؤسسة الرسالة)- يُفَضِّله على كل أهل خراسان؛ فيقول: لم يخرج من خراسانَ أحفظُ منه، ولا قدم العراقَ أعلمُ منه.
وهذا شيخُه الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن حُجْر السعديُّ [ت: 244هـ] -وهو الحافظ العلَّامة الحجة؛ كما يقول الذهبي في "السِّيَر" (11/ 507)- يقول: أخرجَتْ خراسانُ ثلاثةً: أبا زرعة الرازي بالري، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى، وعبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم. ويقدِّمه على نفسه: شيخُه إمامُ أهل العلل الحافظُ أبو الحسن علي بن المديني [ت: 234هـ] -وهو أحد أئمة الحديث في عصره، والمقدَّم على حُفَّاظ وقته؛ كما يقول الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (11/ 455، ط. دار الكتب العلمية)-؛ فإنه لَمَّا بلغه قولُ الإمام البخاري فيه: ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، قال لمن أخبره: دع قولَه؛ ما رأى مثل نفسه.
وقال الإمام البخاري: قال لي علي بن المديني: الناس يقولون: إنك تتعلم مني، ووالله إني لأتعلم منك أكثرَ مما تتعلم مني، ورأيتَ أنتَ مثلَ نفسك يا أبا عبد الله؟! حكاه الحافظ ابن رُشَيد الفهريُّ في "السَّنَنِ الأَبْيَن" (ص: 88، ط. مكتبة الغرباء).
وينقاد لقوله في معرفة الحديث وعلله مشايخُه وأئمةُ أهل الحديث في عصره؛ كشيخه الإمامِ الحافظِ أبي زكريا يحيى بن معين [ت: 233هـ] -وهو إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة؛ كما يقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 313، ط. دار الكتب العلمية)-، وإمامي أهل خراسان أبي زرعة [ت: 265هـ] وأبي حاتم [ت: 277هـ] الرازيين: قال أبو عمرو الكرماني: حكيت لمهيار بالبصرة، عن قتيبة بن سعيد، أنه قال: لقد رُحِلَ إليَّ مِن شرق الأرض وغربها، فما رَحَلَ إليَّ مثلُ مُحَمَّد بن إسماعيل، فقال مهيار: صدق؛ أنا رأيته مع يحيى بن معين، وهما جميعًا يختلفان إلى مُحَمَّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى ينقاد له في المعرفة، وينهى شيخُه الإمامُ الحافظُ الحجةُ مسددُ بنُ مسرهد [ت: 228هـ] أن يُقَدَّمَ أحدٌ على الإمام البخاري؛ فيقول: لا تختاروا على محمد بن إسماعيل، يا أهل خراسان.
ووصل من قوة معرفته وعلمه بالحديث: أن وصفه المحدِّثون بالاستقراء التام؛ فعَدُّوا كل حديث لا يعرفه ليس بحديث، وهذا مقامٌ يعسر مَنَالُه في علم الحديث؛ فهذا الحافظ عمرو بن علي الفلاس يقول: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
وعلى ذلك: فقد صرَّح علماء المسلمين وأئمتهم عبر القرون بأن الإمام البخاري قد بلغ الغاية في حفظ الحديث وفهم عِلَله، وأنه جمع إلى معرفة الأسانيدِ التفقهَ في المتونِ، وأنه علَمٌ من كبار علماء الحديث روايةً ودرايةً، وأنه كان إمام زمانه، ولم يرَ فيه مثل نفسه، والذين شهدوا له بذلك إنما هم أئمة المحدثين وهم أهل الشأن وأصحاب الصنعة وأرباب التخصص ومَن إليهم المَرْجِعُ في تقويم الرجال وتقدير مكانتهم وأهليتهم في علوم الحديث وفنون الرواية؛ حيث شهدوا له بالإمامة والتفرد في علوم الحديث، وقدموه على أنفسهم في ذلك، وشهدوا بأنهم لم يروا مثله في علم الحديث والأهلية والفهم فيه، وقد امتازت هذه الشهادة بالتنوع الشديد الذي يستحيل معه التواطؤ على الخطأ أو الكذب عادة؛ فقد أثنى عليه شيوخُه وأقرانُه ومعاصروه وتلامذتُه، ثم من جاء بعده، واجتماع كل هذه الطبقات على الشهادة له بالإمامة يجعل ذلك أمرًا قطعيًّا لا مرية فيه.