يشهد النظام الدولي منذ نهاية عام 2023وحتي الآن حالة من الإرباك والحلحلة لثوابت عديدة سواء في شكل التحالفات أو موازين القوي على الساحة الدولية، وهو ما نجم عنه تغييرات جوهرية في خريطة الصراعات والمؤامات السياسية والاقتصادية، كونه مشهد يغلب عليه استخدام القوة الصلبة وفقا لمقاربات "جوزيف ناي" والتي تتٌرجم التطورات الراهنة في تحديد مفهوم القوة وعناصرها، والذي يحصرها في استخدام القوي العسكرية والقوة الاقتصادية ، وهو ما يمكن ترجمته في استمرار حالة الصراع والتوتر الحاد على مستوى الصراعات الرئيسية في النظام الدولي، والحرب في أوكرانيا، والحرب في غزة وما خلفها من خلق بؤر صراع جديدة بين إسرائيل وإيران وحزب الله، والصراع في السودان، والبحر الأحمر عبر هجمات الحوثيين.
وبالتالي، فليس من الغريب ما توصل له تقرير مؤشر السلام العالمي والذي أصدره معهد الاقتصاد والسلام (IEP) في يونيو 2024، والذي خًلص إلي تدهور مستوى السلام حول العالم مع نشوب 56 صراعا، وهو ما يعد أكبر عدد للصراعات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقلص متوسط مستوى السلام في البلاد بنسبة 0.56 % مقارنة بالعام السابق.
وعليه ، سوف يركز هذا القسم علي قراءة خريطة التوترات الراهنة والتي ينعكس مدي تشابكها وتداخل أطرافها ودلالاتها في كثير من الأحيان.
لعل يعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أبرز وأقدم النزاعات في المنطقة، كونه يشكل بؤرة التوتر الرئيسية في الشرق الأوسط،، الإ انه يشهد حاليا تغيرا نوعيا علي اصعدة عدة ، تتمثل فى توسع نطاقه وهو ما يظهر في الصراع المباشر بين إسرائيل وإيران، والذي بدأ في عام 2024، حين تصاعد الصراع بالوكالة بين إيران وإسرائيل إلى صراع مباشر بين البلدين في أبريل الماضي، على خلفية قصف إسرائيل السفارة الإيرانية في دمشق عاصمة سوريا، مما أسفر عن مقتل عدد من المسؤولين الإيرانيين، وعليه فإن خطر نشوب صراع أوسع في الشرق الأوسط يتصاعد، فهناك مواجهات متزايدة عبر الحدود بين حزب الله المدعوم من إيران والجيش الإسرائيلي على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.
إلي جانب ، تفاقم التوترات في القرن الافريقي علي خلفية ازمة اثيوبيا والصومال التي بدأت في يناير الماضي ، وذلك بعد توقيع اتفاقاً مبدئياً مع إقليم أرض الصومال ؛ تحصل بموجبه أديس أبابا على مَنفذ بحري.، وبعد إرسال مصر معدات وقوات عسكرية إلى الصومال، قررت إثيوبيا أديس أبابا التصعيد وقامت بتعيين سفيراً لها في إقليم أرض الصومال غير المعترف بها والتابع للحركة الانفصالية، وهو ما ينذر بتأجيج التوترات الأيام المقبلة.
فضلا عن ذلك، فأن تجدد الصراع الروسي الاوكراني بعدما شنت القوات الأوكرانية هجوما مفاجئا عبر الحدود في أوائل أغسطس الجاري، وتقدمت لمسافة نحو 30 كيلومترا داخل منطقة كورسك الروسية، يعد الدلالة الثالثة عن حالة تذبذب الأوضاع ، فالصراع الحقيقي في هذا السياق يتمثل في "المعضلة العسكرية " والتي برزت نتيجة عدم إظهار روسيا أو أوكرانيا أي علامة على تحقيق النصر أو الرغبة في التنازل عن أهدافهما المتعارضة وبالتالي عدم حسم الصراع لاي طرف، وهو ما يسهم في تأجيج الصراع.
وبالتالي أتصور أن يتوقف مستقبل هذا الصراع إلى حد كبير على من يتولى قيادة الولايات المتحدة بعد الانتخابات المقررة في نوفمبر كونها أكبر مصدر للمساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، وتذهب التفضيلات الروسية إلي عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب للرئاسة.
وباستعراض الدلالات والتقديرات السابقة، يتنامى تساؤلا ملحا لدي الرأي العام العالمي حول المدي الزمني المتوقع لأنهاء الازمات في ظل تصاعد العواقب؟
بالنظر إلي قابلية الصراعات الراهنة للتمدد على المستوى الجغرافي، مع احتمالات توسعها نحو بقاع أخرى، والامتداد زمنيا، فيبدو من الصعب التنبؤ بنطاق زمني حول المدى الذي قد تنتهي خلاله، وهو الامر الذي يفاقم من التبعات السلبية نتيجة ارتباطها الوثيق والمباشر بالعديد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع الطاقة، وبالتالي تمتد آثار الصراعات فلا تقتصر على الصعيد السياسي او الجيواستراتيجي فقط، وانما تتسبب في انعدام الأمن الغذائي وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
فعلي الصعيد الاقتصادي، فوفقا لتقديرات تقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي الصادر عن صندوق النقد الدولي في ابريل 2024 والذي أشار إلي أن الاقتصادات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أشد تأثرا بالصراعات، حيث أن البلاد ذات الأسواق الناشئة غالبا ما تتكبد خسائر أفدح مقارنة بغيرها وبالتالي لا تؤثر الصراعات على البلدان المعنية مباشرة فحسب، بل يمكن أن تمتد آثارها غير المباشرة إلى بلدان أخرى، مع اختلاف الأثر بناء على قنوات انكشافها.
اما فيما يتعلق بملف الطاقة، فلا شك بأن ثمة ارتباطا مباشرا بين قطاع الطاقة والصراعات الدولية القائمة في الوقت الراهن، فعلى سبيل المثال، يمثل الغاز ساحة مناورة لروسيا في مواجهة العقوبات التي يفرضها الغرب الأوروبي، الداعم لأوكرانيا، وهو ما أدي بصورة كبيرة في تحريك أسعار الطاقة، وما يصاحبها من الارتفاع الكبير في نسبة التضخم، وما والتي طالت السلع الأساسية.
كما ارتبطت الأزمة التي يشهدها قطاع غزة بقطاع الطاقة، نتيجة الاضطرابات التي يشهدها البحر الأحمر، وتداعيات ذلك على ممرات الملاحة البحرية، ومن ثم فإن استمرار الحرب في غزة، سوف يساهم في زيادة كبيرة في أسعار برميل النفط إلى أكثر من 100 دولار للبرميل الواحد، مقارنة بسعره الحالي.
ناهيك عن الأثر المتوقع عن قرار الحكومة الليبية بوقف إنتاج وتصدير النفط والذي لا تقتصر تبعاته علي فقد الكمية، بل تمتد إلى النوعية أيضاً، وهوما يعني أن الأثر سيكون في الأسعار من جهة، وفي الفروقات السعرية بين أنواع النفط المختلفة من جهة أخرى.
ختاما، أن الحروب الجارية في أكثر من نقطة على خريطة العالم غير مرشحة لحلول قريبة، وبالتالي سوف اطرح تساؤلا اخيراً حول جدارة النظام الدولي في حلها او علي الافل تقديراُ تخفيف حدة آثارها؟