القراءة.. تلك الرياضة الروحية التي نتقنها بالممارسة القلبية وندمنها بالرغم ما تتطلبه من مجهودات عقلية، نشتهيها لما تفعله في انعكاساتنا الروحية، ولا نسلاها فهي القبلة التي نسلكها في كل قرارتنا المصيرية، ولكن عدو تلك اللحظات الحميمية لحظات التوهان والشرود وخاصة عندما تكون الظروف التي تحاوطك غير اعتيادية، فتشعر أنك قارئ بائس تقرأ وأنت يائس، تحافظ على العادة وتحاول أن تلتمس السعادة لكن تكتشف أنك كالحمار الذي يحمل أسفارا، وفي وسط تلك الحالة الضبابية انتبه لما يستوقفك وينتشلك ويعيدك لمكانتك الآدمية، تلك العبارة أو الجملة وربما كلمة..
فهي ليست صُدفة غير مبررة فأغلب الظن أنها رسالة لك وإن كانت مشفرة.
وهذا ما حدث، ففي اللحظة التي كنت أعاني فيها من أسفاري إذا بتلك الآية تقتحم أغواري، "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"، مررت بتلك الآية وقد تكون هي من مرت بي فاستوقفتني واستدعتني من تلك القراءة التي كنت فيها غائبة، وفي خيالي تائهة وبين افكاري سابحة، وفي مغبات تلك الحياة مشتتة، بين أمنيات مزقت السكون وأحلام حُرِمَت أن ترى الوجود وآهات حُرِّمت عليها تراتيل الهدوء، انتزعني تلك الآية من غياهب اللاحضور وأنا اتمتم بصوت مسموع، وأشعر بتلك الدموع تتدافع رغماً عني من مقلة عيني وبُكرة قلبي.
فما الحكمة؟ وهل أوتيناها أم لم يرزقنا الله إياها؟ وإذا كانت رزقاً أدركناه فهل ما نحن فيه من شقاء جراء اختياراتنا وقراراتنا هو عين الخير وما سنؤجر عليه بجميل الجزاء؟ أم ذلك مصيرنا الذي آلتنا إليه مصائرنا بعد أن سُدت أعين بصائرنا عن الحكمة، فلم تطرق بابنا ولم ندرك دروبها فخضنا معاركنا خاويي وفاضها فكان ماكان من قضاء جنيناه لأننا كنا فُرادى دونها، ولكن هل هذا ذنبُنا أم ابتلاء لنا أم ما نستحقه لأنها تركتنا بسبب سوء بِنا؟
هل هي الورع في رحاب الله
أم الروع من خلق الله
هل هي منحة عقلية
أم لا نبلغها إلا عندما نصاب بمحنة تستدعي العقلانية
هل الحكمة في التحلي أم بالتخلي أم لا ندركها إلا في اللحظات التي تبلغ فيها الروح التجلي
هل هي كما قال البعض معرفة القرآن فقهه ونسخه ومقدمه وحلاله
أم هي تطبيق محكمه ومتشابهه ومؤخره والابتعاد عن حرامه
هل هي صلاة وصوم ومظهر يدل على التقى والصلاح
أم معاملة ومهادنة واتباع سبيل الفلاح
هل هي عطية للرسل والأنبياء أم هي مكتسبة ولكنها لا يبلغها إلا الأتقياء الأسوياء
هل هي صواب الفعل ورفيع القول بمعايير الناس
أم صواب نعلمه ولا نخشي أن نعلنه بمقاييس خالية من زعزعة الوسواس الخناس
أهي… كل ما يكمن في البعد السفه، ولكن هل كل عفوية هي درب من العته
غريبة هي الحكمة أهي شاملة تامة وجامعة كاملة
أم منقوصة وقد تبدو منقوضة وبعض أوصالها باسم الحُريات واختلاف الصفات مرفوضة
أهي إحكام قاطعة وقوانين حاكمة وقواعد مانعة
أم تراها نسبية متغيرة ولكل موقف قَدْره فتبدو أحياناً كالفراشة ملونة وربما كالحرباء متلونة
هل الحكمة في الهدوء وكظم الغيظ والصبر على الأذى مهما بلغ به المدى
أم هي الانتفاض ورفض الانكسار لكل ما لا يمثل طموحاتنا ورغباتنا من قرار
هل الحكمة في الإقبال أم الإدبار! في الرضا أم التمرد
وهل أصحابها من أهل الشيب أم الشباب والفتية والصبا
هل هي مستقر الرجال فقط بينما النساء دائمات السعي لها والترحال منها
أم هي مرتبطة بالتجربة وبحصاد الرحلة وما يعتليه من أتربة
هل هي خُلاصة السابقين وسيلقى الويل من يُفلتها من اللاحقين
ورد لفظ الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة، وورد اسم الحكيم كاسم من أسماء الله الحُسنى 38 مرة، وارتبطت الآيات التي ذُكر بها لفظ الحكمة في غالبية المواضع بالرسل والأنبياء.
فاقترنت بسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعيسى وموسى عليهما كل السلام، كما خص الله بها آل إبراهيم كما ورد في الآية 54 من سورة النساء "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما"، ووردت الحكمة أيضاً مقترنة بنبي الله داوود وعبد الله لقمان، وجائت على صورتين إما مُنزلة من الله على من يشاء كما في قوله تعالى "وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"، أو تؤتى من الله لمن شاء كما في قوله تعالى "وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب".
فهل الحِكمة حِكر على الأنبياء والرسل الذين ارسلتهم السماوات! لو كان الأمر كذلك ما ذكر الله عبده لقمان، وهو ليس برسول ولا نبي، وجاءت الحكم على لسانه حياتية وتربوية وتعليمية نسترشد بها على اختلاف أفكارنا ومعتقداتنا.
والْحِكْمَةَ كما يقال عنها أنها ضالة المؤمن، وعرفها العلماء بأنها وضع الأشياء في مواضعها وتنزيلها بمنازلها، وهي لغوياً مشتقة من الفعل حَكَم أي مَنع، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والخطيئة وتجنبه تداعيات الجنوح الخطيرة، ولذا سميت الحديدة التي في اللجام الذي يوضع في فم الفرس حكمة لأنها تمنعه من الجموح.
وإذا بحثت عن معنى الحكمة في الحياة فستجدها ثلاثة أنواع حكمة علمية وحكمة عملية وحكمة حقيقية، ولو تبحرت في علوم الدين ستجد أن هناك حكمة السنة والنبوة والفقه والفهم والعظة، وإذا تفكرت في أنواع الحكمة الدنيوية الخالصة فستجد أن نوعيها العلمي والعملي ربما يسهل تفسيرهما، والمعنى في بطن الشاعر وبحسب ما في قلب كل منا من مشاعر، لكن ربما ستصاب بالحيرة من النوع الثالث وهو الحكمة الحقيقية، التي عرفها الباحثون بأنها التنسيق بين "المعرفة والخبرة" و"استخدامها المتعمد لتحسين الرفاهية"، والتي سبق وقال عنها سقراط أنها معرفة أنك لا تعرف شيئاً.
وهذا التعريف السقراطي وقع في قلبي كمذهب غرامي، اتفقت معه ووافقت عليه وأقرته نفسي، وصدق عليه عقلي وسعد به ضميري واستقر عليه يقيني..
نعم أنا لا أعلم شيئاً وكلنا كذلك، فأفضلنا وابرعنا وأمهرنا واتقانا، ومن ذاب مِنا في عمله إتقاناً، لا زال لم يؤت من العلم إلا قليلاً، وتلك الحقيقة.
فإذا كانت الأسئلة منهكة، فالإجابات قد تكون مُهلكة، لذا فالحكمة كل الحكمة أحياناً في التسليم، أن نتقبل الهزيمة ونحن ممتلئين باليقين، أن كل معركة هي جولة في حرب الحياة وليست نهايتها، فالحرب لن تنقضي إلا بانقضائنا، وفي فصول تلك المعارك الموجعة، ربما الحكمة النافعة الممكنة، أن نتذكَر أن بئس العبد رَغَب يذله ورَهَب يضله.
فلتكن كرامتك فوق كل قرار، وعزة نفسك هي القبلة التي يجب ان تضعها في الاعتبار، ولتذهب الحياة بنا لجحيمها فهو ليس إلا نعيمها دامت كرامتنا حاضرة وعزة أنفسنا شامخة وعالية، وكل ما يقود لذلك هو مبلغ الحكمة.
وإذا ارتبطت الحكمة بالعقل، فالحكماء وصفوا العاقل بأنه من كانت نفسه في تعب و الناس منه في راحة، و الأحمق من نفسه في راحة و الناس منه في تعب، فيا رب إذا لم تؤتنا الحكمة فأجعلنا من أصحاب العقل ربما تأتينا الحكمة كما وعدت أنها لذوي الألباب، فيا حكيم ستظل أجلّ الحِكم هي حكمتك الإلهية التي تقضي بالعدل والرحمة وإن لم ندرك حِكمة القضاء فنحن موقنون بجزيل عطائك عند الصبر على الابتلاء.