في تتبع ورصد نجاح النظرية التي تقرر بأن لكل فعل رد فعل، نجد أن ذلك حاضر في تفاصيل الواقع المعاش في دقه وجله، حيث تعتبر أغلبية سلوكياتنا وأفكارنا هي رد فعل لمحرض معين، مع اختلاف أنواعه وأشكاله وقوته.
ومن الأمور المحورية البارزة التي نجحت في شد انتباه الإنسان، وارتبطت بالكثير من مسارات أفكاره وسلوكياته، ما يسمى ب "التصنيف"، من حيث هو مسؤول عن توجيه الأفكار والإرادة الإنسانية انطلاقاً من تصنيف الفعل نفسه فهل هو حلال؟ أم حرام؟، وهل هو خير؟ أم شر؟ وبالتالي فقد ساعد هذا الأمر على وجود أكثر من وجهة نظر ورأي إذا الموضوع الواحد وبالتالي تعدد القرارات واختلاف السلوك المبني عليها، وهذا كله يرجع إلى النواة الأولى والمحرك الذي يدفع بالقوة والإرادة الإنسانية، ويساعد في ذات الوقت على تشكيل القرار ووجهات النظر انطلاقا من طبيعة التكوين المعرفي، والظروف التي صاحبت ذلك التكوين، حيث أننا عند الحديث عن المنظومة الأخلاقية والقيمية لا يمكن تجاهل أبسط تفاصيل تكوين تلك المنظومة، التي تجتمع مشكلة فسيفساء أخلاقية وقيمية بصورتها الكبرى، وبالتالي فإذن الأخلاقيات التي تعتبر وحدة من فروع الفلسفة، تضطلع بتحديد الإطار العام للمفاهيم الكبرى المتداخلة و الملتقية مع الأخلاقيات والجدليات ذات الصلة، من مثل معنى الخير والشر، وثنائية الفضيلة والرذيلة، أو العدالة ونقيضها (الجريمة)، والصواب والخطأ.
وحتى نصل إلى إيضاح أكثر قربا فلا بد من الإشارة إلى الأثر الذي يتسبب به التكوين المعرفي في سياق البناء الأخلاقي، ففي المرتبة الأولى لا بد من الإشارة إلى ما يمنحه النظام المعرفي المتكون بداخل كل إنسان منا، من قدرة على امتلاك أدوات نقدية ممحصة للمعطيات التي يتفاعل معها الإنسان ومما يعني تمكينه فهم القضايا والإشكاليات الأخلاقية بطريقة تتجاوز الحدود السطحية، وبالتالي فإن هناك علاقة طردية بين اتساع المعرفة القيمية، التطور المهارات الإنسانية المسؤولة عن اتخاذ القرارات واستشراف النتائج المتوقعة.
ومن الآثار الظاهرة التي يمكن ملاحظتها لأن هي كاس الواضح لمستوى المعرفة على القيم الخاصة بالأفراد، حيث أنها تؤثر على تشكيل المعتقدات وتكوين القيم الشخصية التي تعتبر البوصلة المسؤولة عن تشكيل القرارات اختيار التفضيلات في ما بينها، بل وبناء أفكار جديدة ربما تتفق أو تختلف أو تعدل على الأفكار التي يمتلكها الإنسان بالأساس في منظومة المعرفية والقيمية، وبالتالي فإن أثر المعرفة على القيمة الشخصية يؤثر بشكل مباشر على صيرورة القرار الأخلاقي.
ومن ناحية أخرى اتساع دائرة المعرفة، وسائل الإنسان لتحصيل قدر أكبر من المعارف بطرق منهجية منظمة، وبمراعاة شروطها وقواعدها الدقيقة فإن كل ذلك يسهم بشكل مباشر في توليد تجديد وإصلاح فكري، مما يعني عدم الاصطدام بضرورة المواكبة، وبناء ثقافة معرفية تساعد على تجاوز العقبات والتحديات التقليدية والموروثة، وبالتالي فإن المعرفة من حيث أنها أداة أخلاقية، فإنها قادرة على توجيه الأفراد لمساج جديد ومختلف يوفر إمكانية وضع الموروثات من العادات والتقاليد الاجتماعية تحت المجهر النقد والتقييم والتقويم من المنظور الأخلاقي، وبالتالي القدرة على التعامل مع النتاجات والخلاصات بطريقة موضوعية ودقيقة وحيادية، الأمر الذي يمكن اعتباره انتصاراً إنسانياً على المصفوفات التراثية المقدسة لاعتبار الأشخاص، أو القبائل، أو غيرها من الانتماءات غير الجديرة بالتقديس، وإن كانت جديرة بالاحترام، وغرس الأسس ذات الأثر الإيجابي حيثما حققته.
وإن اجتماع العوامل السابقة، يؤدي بالضرورة إلى تفعيل الدور الإنساني في مضمار نضاله الطويل، من أجل تحقيق الأفضل دائماً، حيث يستطيع المساهمة في مشروع تجاوز العقبات والتحديات الأخلاقية، وبالتالي فإن المعرفة تستثمر بطريقة فعالة من أجل اتخاذ المواقف والقرارات الأخلاقية البعيدة عن التجويف أو الضبابية، أو الفهم غير الناضج للحريات أو تفضيلها على الأخلاق بدل الموائمة بينهما.