في قلب العالم، وبين قاراته التي تشكل مراكز القوة الاقتصادية، تمتد تحت مياه البحر المتوسط والبحر الأحمر شبكات من الكابلات البحرية التي تحمل في طياتها شريان الحياة الرقمي لهذا العصر.
مصر، بموقعها الاستراتيجي الفريد، تجد نفسها في مركز هذه الشبكات، حيث يمر عبر مياهها أكثر من 17 كابلًا بحريًا تربط بين أكثر من 60 دولة.
لكن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح هو: كيف يمكن لمصر أن تستغل هذا الموقع الاستثنائي لتحويل نفسها إلى قوة رقمية واقتصادية؟ كيف يمكن لهذه الكابلات، التي تمر بصمت تحت الأمواج، أن تتحول إلى محرك للنمو الاقتصادي والإبداع التكنولوجي؟
إذا نظرنا إلى هذا السؤال من منظور تقني واقتصادي، نجد أن الإجابة تتطلب منا فهمًا عميقًا للبنية التحتية الرقمية التي تتشكل على أرض الواقع. تلك الكابلات البحرية ليست مجرد أسلاك تربط بين الدول؛ إنها شرايين تنبض بالبيانات التي تحرك عجلات الاقتصاد العالمي، وتغذي الصناعات التي تعتمد على السرعة والكفاءة في معالجة وتبادل المعلومات، ومع ذلك، يظل هذا الإمكان الهائل مجرد حبر على ورق، إذا لم تتوافر البنية التحتية اللازمة لتحويل هذه البيانات إلى ثروة حقيقية، هنا، يأتي دور مراكز البيانات، تلك القلاع الحديثة التي تقوم بتخزين وتحليل البيانات الضخمة، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية ملموسة.
إن مراكز البيانات ليست مجرد مبانٍ ضخمة مليئة بالخوادم وأجهزة التخزين؛ إنها في الواقع، القلب النابض للاقتصاد الرقمي، في هذه المراكز، يتم تخزين ومعالجة البيانات التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات لاتخاذ قراراتها اليومية، وتطوير ابتكاراتها المستقبلية، ومن هذا المنطلق، نجد أن بناء مراكز بيانات حديثة في مصر هو خطوة حتمية نحو استغلال الموقع الجغرافي الفريد للبلاد، إذا تمكنت مصر من تأسيس مراكز بيانات على أعلى مستوى، فإنها ستكون قد وضعت قدمها على أولى درجات السلم نحو التحول إلى مركز إقليمي للحوسبة السحابية وتحليل البيانات الكبيرة.
ولكن التحدي الأكبر الذي يواجه مصر ليس فقط في بناء هذه المراكز، بل في كيفية جعلها عنصرًا جذابًا للشركات العالمية، هنا، يظهر دور الحوسبة السحابية كواحدة من أهم الأدوات التي تعتمد عليها الشركات والمؤسسات في العصر الرقمي؛ الحوسبة السحابية تتيح للشركات تخزين ومعالجة بياناتها عبر الإنترنت، دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية المحلية، وهنا، يأتي السؤال: كيف يمكن لمصر أن تستفيد من هذا الاتجاه العالمي المتزايد نحو الحوسبة السحابية؟
إذا نظرنا بعمق، نجد أن الإجابة تكمن في استغلال الكابلات البحرية التي تمر عبر مصر، لبناء مراكز بيانات حديثة متصلة بشبكات ذات كفاءة عالية، هذه المراكز يمكن أن تخدم ليس فقط السوق المحلية، بل أيضًا الأسواق الإقليمية والعالمية، مقدمة خدمات تخزين سحابي، حوسبة سحابية للأعمال، وتحليل البيانات الكبيرة، ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن تكون مصر قادرة على تقديم مستويات عالية من الأمان السيبراني، لضمان حماية البيانات التي تمر عبر هذه المراكز من التهديدات الإلكترونية.
لأن تأمين البيانات ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو ضرورة استراتيجية لجذب الاستثمارات الأجنبية، فإن الشركات العالمية تبحث دائمًا عن مواقع آمنة وموثوقة لتخزين بياناتها، وإذا تمكنت مصر من تقديم ذلك، فإنها ستكون قد فتحت أبوابًا جديدة للاقتصاد الرقمي، وهذا يتطلب استثمارات في تقنيات الأمن السيبراني وتدريب الكوادر البشرية على كيفية مواجهة هذه التحديات.
وقبل كل ذلك يأتي دور التشريعات الرقمية، التي يجب أن تكون مرنة بما يكفي لتواكب التطورات السريعة في هذا المجال، وصارمة بما يكفي لحماية حقوق جميع الأطراف؛ مصر بحاجة إلى قوانين رقمية تنظم عمل مراكز البيانات والحوسبة السحابية، وتحمي البيانات من التهديدات السيبرانية، وتحدد المسؤوليات القانونية لمشغلي هذه المراكز ومستخدميها.
إذا نجحت مصر في تنفيذ هذه الخطوات، فإنها ستفتح أبواباً واسعة لفرص اقتصادية هائلة، ستصبح مراكز البيانات والحوسبة السحابية محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي، بفضل جذب الاستثمارات الأجنبية وخلق فرص عمل جديدة في قطاع التكنولوجيا. بالإضافة إلى ذلك، ستعمل على تحفيز الابتكار في قطاعات متعددة مثل التمويل والصحة والتعليم والتجارة الإلكترونية إلى جانب تقديم خدمات البيانات للشركات المحلية والإقليمية، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويزيد من تنافسية الشركات المصرية على الساحة العالمية.