من الأمور التي يكثر البحث عنها حكم تخصيص يوم مولد النبي للصيام سنويًا؛ حيث بينت دار الإفتاء المصرية من خلال الموقع الرسمي، التوفيق بين الصيام شكرًا لنعمة ميلاد النبي عليه السلام والإفطار فرحًا بذلك.
حكم تخصيص يوم مولد النبي للصيام سنويا
وقالت الإفتاء: لَمَّا كان ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظمَ النعم التي أنعم الله- تعالى- بها على عباده؛ ناسب ذلك أن يجري عليها كل المعاني التي حث الشرع الشريف عليها حيال ما ينعم الله تعالى به على عباده، ومن هذه المعاني: شكر الله تعالى على الإنعام، وإظهار الفرح ونشر السرور، والاعتناء بها بما اعتاده الناس في مثل ذلك.
ومن مرونة الفقه الإسلامي واتساعه: جاءت أقوال الفقهاء مناسبة لكلا المعنيين؛ فمنهم من ذهب إلى استحباب صيام يوم المولد النبوي الشريف تغليبًا لمعنى الشكر كما سبق ذكر بعضها، ومنهم من ذهب إلى استحباب إفطاره تغليبًا لمعنى الفرح وإظهار البهجة والسرور وتنزيلًا لذلك اليوم منزلة العيد؛ فالحقيقة أنَّ يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عيدٌ للإسلام؛ كما قال العلامة ابن الجزري في "عرف التعريف بالمولد الشريف" (مخطوط، ص: 237، وقف عبد الغفار شحاتة)، وأنَّ أفضل الليالي على الإطلاق: ليلة المولد الشريف؛ لما ترتب على ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم فيها من النفع العميم والخير العظيم؛ كما قال العلامة الباجوري في "حاشيته على شرح العلامة الغزِّي على متن أبي شجاع" (ص: 404، ط. دار الكتب العلمية)، بل هو أَوْلى من العيدين وليلتهما؛ لأن شرفهما راجع لزمانهما، بينما مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتشرف بالزمان، بل الزمان هو الذي يتشرف به كالأماكن؛ كما قال نجم الدين الغيطي في "بهجة السامعين" (مخطوط، ل: 12، مكتبة جامعة الملك سعود)، وقد اعتاد الناس أن يظهروا فرحتهم واحتفالهم في أيام الأعياد بمظاهر من إقامتهم الولائم واجتماعهم على الطعام؛ فإنَّ اتخاذ الوليمة وإطعام الطعام مستحب في كل وقت؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور النبوة في هذا الشهر الشريف؛ كما نقله العلامة الحسن بن عمر بن الحاج إدريس عن الإمام أبي زرعة العراقي في "شفاء السقيم بمولد النبي الكريم" المطبوع ضمن "مجموع لطيف أنسي" (ص: 136، ط. دار الكتب العلمية)، ويصنعون فيها الحلوى ويتهادونها بهجةً وتوسعةً وفرحًا، فكيف إذا كان العيدُ مولدَ النبي الأكرم ذي الجناب الأعظم والمقام الأفخم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرحم اللهُ امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا؛ كما قال شهاب الدين القسطلاني في "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (ص: 90، ط. المكتبة التوفيقية).
وانطلاقًا من تلك المعاني السالف بيانها: ذهب بعض فقهاء المالكية إلى كراهة الصوم فيه؛ تغليبًا لمعنى العيد فيه، وما يلازمه من الفرح والسرور، ويقترن به مِن أنَّ يومَه يومُ أكل وشرب.
قال الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (2/ 406-407، ط. دار الفكر): [قال الشيخ زروق في "شرح القرطبية": صيام المولد كرهه بعض مَن قرب عصره ممَّن صحّ علمه وورعه؛ قال: إنه مِن أعياد المسلمين فينبغي ألَّا يُصام فيه، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرًا ويستحسنه. انتهى. (قلتُ): لعله يعني ابن عباد؛ فقد قال في "رسائله الكبرى" ما نصه: وأما المولد: فالذي يظهر لي أنه عيد مِن أعياد المسلمين وموسم مِن مواسمهم، وكل ما يفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك.. ولقد كنتُ فيما خَلَا مِن الزمان خرجت في يوم مولدٍ إلى ساحل البحر، فاتَّفَقَ أنْ وجدتُ هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة مِن أصحابه وقد أخرج بعضهم طعامًا مختلفًا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك، أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنتُ إذ ذاك صائمًا، فقلت لهم: إنني صائم، فنظر إليَّ سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إنَّ هذا اليومَ يومُ فرح وسرور يُستَقبَح في مثله الصيام بمنزلة يوم العيد، فتأملتُ كلامه فوجدته حقًّا، وكأنني كنتُ نائمًا فأيقظني. انتهى] اهـ.
وقال الإمام الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 241، ط. دار الفكر): [وَكَرِهَ بعضٌ صَوْمَ يوم المولد؛ أَيْ: لأنه من أعياد المسلمين] اهـ.
وقال العلَّامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 518، ط. دار الفكر): [مِن جملة الصيام المكروه كما قال بعضهم: صوم يوم المولد المحمدي؛ إلحاقًا له بالأعياد] اهـ.
ولا يَخْفَى أنَّ تخصيص يوم المولد النبوي الشريف بإبراز مظاهر الاحتفال والاعتناء بما يلزم لذلك من الزينة والسرور هو أمرٌ حسنٌ شرعًا ومطلوبٌ عادةً وعرفًا؛ فنقل الإمام المؤرخ الصالحي في كتابه "سُبُلُ الهُدى والرشاد في سيرة خيرِ العِباد" (1/ 363، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام الشيخ أبي موسى الزرهوني -وكان من الصالحين-: [أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، فشكا إليه مَن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن فرِح بنا فَرِحنا به»] اهـ.
قال الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (1/ 23، ط. دار الهدى) في بيان الحسن من البدع: [فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمَن حسنت نيته فيها.. ومِن أحسن ما ابتُدِع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يُفعَل بمدينة إربل -جبرها الله تعالى- كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإن ذلك -مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله] اهـ.
ولا يُستشكل على القول بالكراهة في هذا المقام بما توارد من النصوص التي تستحسن صيامه؛ إذ يصحّ قياسه على الخلاف الوارد في صيام يوم عرفة الذي يُندب صيامه لمَن لم يحظ بمحفل الوقوف والاجتماع في عرفة، ويكره صيامه لمَن حظي بذلك الموقف الشريف.
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 173) في وجه تسمية يوم عرفة "عيدًا": [وقد جاء تسميته "عيدًا" في حديث مرفوع خرجه أهل "السنن" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»، وقد أشكل وجهُه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلّ على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهلُ الأمصار أهلَ الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم؛ هذا قول جمهور العلماء. وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا يُنهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح] اهـ.
بل يوم المولد النبوي الشريف أَوْلى من يوم عرفة بالحظوة والتشريف؛ لتعلقه بخير البرية صاحب الشريعة وسيد الخلائق والخليقة صلى الله عليه وآله وسلم.
وشددت مقتضى ما سبق، وبحسب ما بيَّنَّاه في توجيه قولَي الفقهاء في حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف: يظهر إمكان الجمع بينهما، وهو الأَوْلى من ترجيح أحدهما؛ لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الْجَمْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ"؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، وأنَّ "إِعْمَالَ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية)؛ فإذا ما صار من عادة الناس أن يجتمعوا للاحتفال بهذا اليوم ويُعِدوا لأجل ذلك صنوف الطعام والحلوى والشراب ويدعو بعضُهم بعضًا إلى المآدب؛ إظهارًا للفرح الغامر بنعمة استهلاله، وإبرازًا للسعادة المقبلة في إقباله: كُره الصيامُ لمَن يُدعى لمثل هذا الاحتفال أو يحضره.
بخلاف ما لو اعتاد بعض الناس على صوم هذا اليوم تأسيًا بصوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم مولده شكرًا واجبًا لله تعالى على نعمة إيجاده، أو كانت الدعوة إلى طعام الإفطار للصائمين: فإنه يستحسن حينئذ الصوم؛ فهذا مقام الشكر، وذاك مقام الفرح، وكلاهما معتبرٌ شرعًا.