مما لاشك فيه أن العالم يشهد مرحلة فارقة فى تاريخه الحديث ، فالمتابع لمجريات الأحداث يصبح على يقين بأن الأفق الدولى ملبد بالأزمات والمشاكل ويتخلله حروب قائمة وأخرى قادمة وقد تكون منهية لحضارات كثيرة ونظم وتكتلات دولية شتى .
بعيدا عن كل هذا هناك نوع جديد من القلق والألم الانسانى أطلق عليه علماء علم النفس والاجتماع " صمت الجدران ". المسمى شدني اليه وحاولت أن اعرف المزيد عنه وكيف أنه سيصبح سمة للغة البشر مستقبلا وربما حاليا ولكن على نطاق محدود .
صمت الجدران هو ذلك النوع من اسلوب حياة جديد اضطررت اليه للتكيف مع واقعك وللخروج من حالتك الى حالة أخرى تجعلك تتكيف مع الحياة رغم مشاكلها ومتاعبها .
صمت الجدران جعلنى اقوم بتجربة مثيرة من نوعها بدأتها يوحى مما ذكره لى سائق الأوبر المسن الذى تحدث معى دونما استئذان وقال انه ثريا وليس بحاجة للمال وأنه عمل محاسبا فى واحدة من دول الخليج ، واستكمل بأنه عاد الى بلده التى هى بلادى ايضا مصر وكان سعيدا بالاستقرار ولكن القدر لم يمهله فأخذ منه زوجته بعد معاناة قصيرة مع المرض المزعج ومن بعدها هاجر ولديه الى كندا وتركوه وحيدا يتحدث الى حوائط بيته الكثيرة ، ولما أعياه الشعور بالوحدة وحديث الجدران قرر ان يعمل سائقا لكى يتحدث الى الناس ويراهم ويكسر جدار الصمت .
حديث السائق جعلنى اقوم بزيارة قد تكون مغامرة الى السجينات وبالفعل وبقدر علاقاتى استطعت ان ادخل الى احدى السجون والتقى بمجموعة من السجينات اخترتهم بعد الاطلاع على ظروف سجنهن وكونها تناسب ما أبحث عنه وهو الحديث مع الجدران الصامتة .
حواراتهم كلها تركزت حول الندم والألم والدعاء بالمغفرة والتمنى بأن يعود بهن الزمن ولا يكنن فى هذا المكان وان يعملن على اصلاح سبب هذا السجن والانخراط فى حياتهن السابقة ، احداهن قالت وهى تبكى " اتحدث الى حائط سجنى واتخيله غريمي الذى تمردت عليه وسرقته من اجل وهم يسمى الحب ، واطلب منه ان يسامحنى ويغفر لى سوء فعلتى "
واحدة بكت كثيرا مرددة كلمات الاستغفار ولم تقل غيرهم وعرفت ممن معها انها نادمة على ضربها لأمها التى وافتها المنية وهى فى السجن ولم تعرف هل عفت عنها وسامحتها أم لا .. حالات كثيرة صمتت مثل صمت الجدران وعيونها تتحدث وتشكو وتقول مالم يقله الفم .
من السجن الى دار المسنات وهناك كان الهول الأعظم والألم النفسى الأكبر فهناك حدث ولاحرج عن عوار مجتمعى كبير التهم معه ماتبقى من موروثات اجتماعية وقيم اخلاقية عشناها طويلا .
فى عالم المسنات وبالطبع يوجد بينهن صغيرات هربن من بطش المجتمع ومن قسوة الاخوة وظلم الاباء وبطش زوجات الاب وبعضهن هربن من تحكم امهاتهن واحيانا من تحرش ازواج الامهات . عشت معهن فترة سمعت خلالها مالايصدقه عقل وترتعد منه الفرائص وتدمع له العيون .
حكين لى الكثير والكثير عن جدار الصمت وحوارهن معه وكيف انهن مع الوقت صرن يألفن الحديث معه وصارت هناك صداقة مريحة للنفس ومحببة للقلب جعلتهن يتناسين اوجاعهن من أقرب الناس ، احداهن أكدت لى أنها نادمة على حياتها كلها وندمها الاكبر على كونها صارت أما وتفانت فى العطاء وقوبل بالنكران والقاءها فى هذا المكان والاكتفاء بارسال مصاريف الدار من ورثها الذى احتفظ به ابنها بزعم الخوف عليها من النصابين والسارقين .
عالم قاسى لم يرحمهن وتركهن وراء الأسوار وصديقات لجوادر الصمت . فى عودتى تصادف ان يكون السائق هو من ارسلته لى التطبيقات الذكية او مايعرف بأوبر وفور أن رآنى قال لى :" نسيت ان أقول لكى ان الجدران تتألم لألمى بل انها تبكى أحيانا من أجلى "