في حقبة الستينيات، كانت مصر تعيش مرحلة من التحولات العميقة التي لم تقتصر فقط على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، بل امتدت أيضًا إلى الفنون والآداب، و-بالطبع السينما-. في تلك الفترة، كانت السينما المصرية في أوج عطائها، وكانت الكوميديا تحتل مكانة خاصة في قلوب الجماهير، فقد كانت تُعد بمثابة النافذة التي تطل منها الجماهير على واقعها المعيش، تارة لتخفيف وطأة الحياة اليومية، وتارة أخرى للتأمل في أوضاعها -بأسلوب ساخر- وأحياناً لاذع.
الكوميديا، كما نعلم، ليست مجرد فن لإثارة الضحك، بل هي أداة فنية عميقة تهدف إلى تسليط الضوء على التناقضات والمفارقات في المجتمع. وفي الستينيات، كانت الكوميديا المصرية تعكس بوضوح التغيرات الاجتماعية التي كانت تعصف بالبلاد. فلم تكن الأفلام الكوميدية مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت الصدى لصوت الواقع الاجتماعي المتغير والذي يعالج قضايا معقدة ببساطة وسلاسة، مما جعلها قريبة من قلوب الناس.
إذا ما نظرنا إلى أفلام تلك الفترة، سنجد أن المخرجين والكتاب الكوميديين قد برعوا في صياغة أفلام تعكس التغيرات الاجتماعية من خلال شخصيات عفوية وبسيطة، إلا أنها كانت تحمل في طياتها رموزًا وأبعادًا عميقة.
على سبيل المثال، نجد أن فيلم "الزوجة 13" والذي تم إنتاجه في عام (1962) للمخرج الراحل فطين عبد الوهاب. هذا الفيلم الذي جمع بين رشدي أباظة وشادية، يمزج بين الكوميديا والرومانسية في إطار من النقد الاجتماعي اللاذع، حيث يسخر الفيلم من شخصية الرجل المزواج، ويعرض كيف يمكن للحب الحقيقي أن يتغلب على النزوات العابرة. هذا المزج بين الكوميديا والرومانسية أضفى على الفيلم طابعًا خاصًا جعله من الأفلام التي لا تُنسى.
وإذا كنا بصدد الحديث عن الأفلام الكوميدية، فلا بد من أن أذكر فيلم "مراتي مدير عام" والذي أنتج في عام (1966) للمخرج فطين عبد الوهاب أيضًا، وكتب قصته عبد الحميد جودة السحار، فهذا الفيلم يعد من الأفلام التي تناولت قضية مهمة بشكل كوميدي؛ إذ يعالج قضية عمل المرأة، وكيف يمكن أن تتعامل مع الرجل في منصب قيادي. لقد جاء الفيلم والذي قامت ببطولته شادية وصلاح ذو الفقار، ليسلط الضوء على التحولات التي طرأت على دور المرأة في المجتمع، وكيف يمكن لهذه التحولات أن تثير مفارقات كوميدية نتيجة التصادم بين القيم التقليدية التي اعتاد عليها المجتمع المصري والمتطلبات الحديثة التي طرأت عليه.
وفي نفس السياق، نرى في فيلم "السيرك" (1968) للمخرج عاطف سالم، كيف يمكن للكوميديا أن تكون وسيلة للتعليق على أحوال المجتمع بشكل غير مباشر. فيقدم الفيلم قصة حب تدور أحداثها داخل السيرك، حيث يصبح السيرك رمزًا للعالم الواسع بما فيه من تقلبات ومفاجآت. الفيلم والذي كتبه صلاح أبو سيف برع في استخدام الكوميديا كوسيلة للتعليق على تقلبات الحياة، مقدّمًا شخصيات بسيطة تسعى لتحقيق أحلامها وسط ظروف قاسية.
النماذج على الأفلام الكوميدية في هذه الفترة كثيرة، سنناقشها -تباعاً- في سلسلة مقالات "صدى الستينيات في السينما المصرية". لقد كان للمخرجين والكتاب في تلك الفترة دور بارز في صياغة الكوميديا بشكل يتماشى مع روح العصر. فطين عبد الوهاب، على سبيل المثال، كان أحد أبرز المخرجين الذين استطاعوا تحويل المواقف الحياتية البسيطة إلى مادة كوميدية، تجمع بين الطرافة والرسالة الاجتماعية كفيلم "كرامة زوجتي" ،"عفريت مراتي"، "نصف ساعة جواز"، وغيرهم . وكذلك حسن الصيفي الذي أخرج أشهر الأفلام الكوميدية، والتي كان منها 16 فيلما لإسماعيل يس.
أما الكتاب، مثل أبو السعود الإبياري_على سبيل المثال_ والذي كتب مجموعة من الأفلام نذكر منها، "الزوجة ال13" ،"صغيرة على الحب" ،"جناب السفير"،وكذلك فيلم "سكر هانم" ، فقد تميز كتاب الستينيات بقدرتهم على صياغة الحوارات الذكية التي تجمع بين السخرية والفكاهة، مما أضفى على الأفلام الكوميدية طابعًا مميزًا يمزج بين الضحك والتأمل. لقد كانت السيناريوهات المكتوبة في تلك الفترة تتميز بالذكاء والبساطة في الوقت نفسه، حيث كان الكاتب يحرص على أن تكون القصة ممتعة وسلسة، مع الحفاظ على القدرة على إيصال الرسائل الضمنية التي تعكس هموم المجتمع وتطلعاته. كما كانت هناك قدرة على خلق شخصيات كوميدية محبوبة تظل في ذاكرة الجمهور لمدة طويلة.
إذا ما تأملنا في الأفلام الكوميدية التي أنتجت في الستينيات، سنجد أنها لم تكن بعيدة عن هموم الناس وقضاياهم، فهي تعكس بصدق التغيرات الاجتماعية التي كانت تحدث في مصر، مثل تغير دور المرأة، والصراع بين الطبقات، والتحولات في العادات والتقاليد. فما بين الابتسامة والعبرة تكشف لنا كوميديا الستينيات، عن عبقرية جيل من المبدعين، استطاعوا تحويل الضحك إلى فن راقٍ، وإلى وسيلة فعالة للتواصل مع الجمهور وتقديم رسائل هادفة دون أن يشعر المشاهد بأنه يتلقى درسًا.
وللحديث بقية، مع سلسلة مقالات صدى الستينيات في السينما المصرية.