مع تسارع الأحداث والمجريات العالمية وتنوع ما تحتويه من تطورات متداخلة ومتشعبة في شتى المجالات، لا يزال المستوى المعرفي محافظاً على مكانته كأيقونة مركزية تعبر عن المنجز الحقيقي لأي مجتمع، حيث يُقاس ارتقاء وتطور الدول، بتقدم وازدهار مستواها البحثي والمعرفي.
ولا تعتبر ثمار التطور البحثي والعلمي في المجتمعات المعول الوحيد الذي تقف له العقول الواعية والمفكرة احتراماً وإجلالاً، وإنما ما ينتج عن ذلك التقدم من اهتمام بالأبعاد الأخلاقية والاجتماعية التي تعكسها الإنجازات المعرفية المتعددة، وبخاصة في ظل ما وصل له الوعي الإنساني في الوقت الراهن من حاجة ماسة في ظل الحالة التواصلية المتشعبة، والتي ألغت الكثير من الحدود والعوائق بين الدول، لموازاة ذلك بتقدم معرفي يرقى إلى التآلف الإنساني الذي يعاش مطوعاً شتى وسائل التكنولوجيا لتوسيع نطاق هذا التفاعل، والوصول به إلى أقصى درجة ممكنة من الجدوى والفاعلية، بحيث يحقق الأهداف الساعية لتطوير مستوى الجودة في الحياة الإنسانية.
حيث إن هناك مجموعة من الأبعاد الأخلاقية التي يمكن الإشارة لها، مثل دور المعرفة في توجيه القرارات الأخلاقية، وذلك يظهر جلياً فيما يمتلكه الأفراد من مهارات تمكنهم من الولوج في مرحلة صنع القرار المستند على خلفية معرفية مستنيرة، والتي تصل لأبناء المجتمعات مهما اختلفت إلى صيغ أخلاقية متناغمة ومتفقة في أسسها، وفي ذلك جدوى عظيمة النفع على صيرورة السلوك الإنساني، وإن القدرة على الوصول لهذه المرحلة بالتحديد يعني نجاح الإنسان وجهوده المبذولة في التأسيس لأرضية يمكن وصفها بأنها «مؤمنة» بقيمة وأهمية المشترك الإنساني، سيما في ظل ما تصدره المعرفة من صيغ سلسة قادرة على تشكيل المعايير الاجتماعية، بحيث تكون مرنة وممتزجة بالواقع المعاش، وهذا السبيل الذي يمكن استثماره حتى نصل إلى التطوير المنشود للقيم، والإجابة عن التساؤلات المحورية والجدلية الناتجة عنها، والتي تدور حول قضايا في غاية الأهمية مثل حقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، وغيرها.
وبالتوجه إلى نطاق أوسع بقليل، نجد أن الانعكاسات المعرفية والأبعاد الوظيفية التي يمكن ملاحظتها في أنفاق التركيب الاجتماعي، تتلخص بما تضيفه من مستويات توعوية حول القضايا «الساخنة»، و«الملتهبة»، من حيث تداعياتها وانعكاساتها على الواقع الإنساني، والذي يمكن التعريج على أحد ملامحه على سبيل المثال لا الحصر، في الأزمة البيئية الخانقة التي يواجهها البشر، والتي تليها إلحاحات حالة الطوارئ التي تقلب وفي طياتها الإنسان بعد جائحة كوفيد- 19، الذي كان يبدو سابقاً بأنه وصل إلى مستوى كفاءة شبه مثالي، قبل أن تأتي الجائحة وتثبت العكس، وكذلك يمكن أن تسهم المعرفة في إحداث التغييرات الاجتماعية على العديد من المجالات ذات الصلة.
وأما بالتركيز على ما يحدثه التطور المعرفي من تقدم علمي وتكنولوجي، تشارك في سباقه «حامي الوطيس» كافة المجتمعات وشرائحها على اختلاف مستوياتهم، فإن ذلك يكمن في ما تحققه من ابتكارات نوعية قادرة على إحداث فرق واضح وملموس في نمط الحياة الإنساني، وعند هذه النقطة بالتحديد يمكن الوقوف على فكرة محورية، حيث إن القدرة على بناء علاقة بين الإنسان والمعرفة لا تكمن في تعداد أو جمع المعلومات، وإنما في تجاوز إدراك الحقائق، وصولاً إلى استخدامها كأداة فعالة ونافعة في إحداث التغيير الملموس والتطوير المأمول، وصولاً لحياة إنسانية أكثر جودة وأخلاقية على المستوى التطبيقي، لا النظري وحسب.