الأيام صاحبة عصمة الذكريات، خادمها الأمين هم الأنام أصحاب الذاكرة الغير معصومة من الأمس والغد وماهو آت، ذاكرة تنتقي ولا تنتفي منها قائمة المؤلمات، فالذكرى كالعِطر، لا تمر دون أثر وإن مرّ وفرّ كل إثَر، لن يُبطل عِطرها وعبقها ولن ينفي عنها حسنها ودلالها، ولن يُنسي ظلمها وقسوتها ويداري سوءاتها، فليست كل العطور محببة وشهية فبعضها مزعجة وغبية وأخرى مقبضة ومنفرة وغير سوية، وكذلك الذكريات ولكن أصعبها تلك المؤطِرة لعجزك وقلقك ورغباتك غير المحققة خاصة إذا كان هذا رجاء لمُفارِق تبددت رغبته على المَفارِق أو بمعنى أدق لمشروع متوفي وإن طال الأجل فتلك كلمة القَدَر، ولا تتعجب يا عزيزي إذا اخبرتك أنه ربما أنت وبالتأكيد أنا وربما بعض ممن هناك.. هم ذلك المتوفي الذي لديه هذا الرجاء الذي يتجدد عام بعد عام لازلنا فيه من الأحياء، والذاكرة تُجدد الذكرى بما تحمله من آلام وأمنيات، بأن تكون نهايته هي بداية حيوات تتوقف فيها ألوان المعاناة والعذابات.
الثالث عشر من أغسطس بكل عام له ذكرى وفي ذاكرة الضمير لها سطوة، إذ يوافق اليوم العالمي للتبرع بالأعضاء، والتي بدأت في عام 1869، حيث نجح الجراح السويسري جاك لويس ريفيردين في إجراء أول عملية ترقيع للجلد، ما فتح شهية الأطباء والعلماء لتوسيع نطاق التجربة، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر بدأ الجراحون في تجربة عمليات زرع الأعضاء من الحيوان إلى الإنسان، لكن ذكاء الجسد البشري كان أكبر تحدي واجه هذه المحاولات وبصرهم بتحديات تكمن في رفض الجسد المستقبل للأعضاء المنقولة، ما غير استراتيجية البحث وآليات الزراعة.
حتى كان عام 1954 قام الدكتور جوزيف موراي في ولاية بوسطن عندما بإجراء جراحة بين توأمين متطابقين، وكانت أول عملية زرع كلى بشرية ناجحة عرفها العالم، واستمرت المحاولات إلى ثمانينيات القرن الماضي التي شهدت التحول الأكبر والأهم في عالم جراحات نقل الأعضاء، بالتوصل لإدخال الأدوية المثبطة للمناعة مثل السيكلوسبورين الذي يعمل على تقليل الجسد المستقبل لرفض الأعضاء بشكل كبير، ما أدى لعمليات زرع أكثر نجاحًا للكُلى والكبد والقلب والرئتين.
ومنذ الألفية الجديدة ومع مرور مايقارب من ربع قرن من الزمان كانت القفزة الإنسانية كبيرة، حيث ساهم التطور السريع للعلوم الحيوية بالتوازي مع الثورة التكنولوجية في تقديم خدمات جلية للبشرية، فتطورت وتنوعت زراعة ونقل الأعضاء وأصبحت أملاً حقيقياً، فتح الباب لأحلام مستحيلة وحيوات بلغة المنطق منتهية، ولكن بإرادة الله وفتحه ونصره أضحت ممنوحة، وأمنية أن يحيا مريضاً غداً أمست ممكنة، إلا في مصر لازالت متعثرة.
وتصل نسب زراعة الأعضاء من حديثى الوفاة نسبة 90% أمام 10% من متبرع حي في العالم كله، بينما ما زالت النسب في مصر 100% لزراعة الأعضاء من متبرع حي!وذلك أمر مُحير، كيف لشعب يعشق الحياة، وأول من آمن باليوم الآخر والحياة الأبدية، والعطاء بلا حدود في الدنيا وبعد الموت، ألا يكون أول المبادرين وعلى رأس الساعيين لينثر في الدنيا حيوات ويزرع ضحكات، وتكون نهايته بمثابة مفتتح للعديد من البدايات وبارقة أمل للعائلات.
وبلا شك يبدو أن الصِبغة الثقافية والمجتمعية للشعب المِصري غلبت هويته الإنسانية، وإلا ما صدرت آلاف الفتاوي والتشريعات الموثقة من علمائنا الأجلاء، بداية من مؤسسة الأزهر الشريف وحتى مكاتب الفتوى التابعة لدار الإفتاء، والتي اجتمعت على محمودية الأمر طالما سيتم تنفيذه في إطار الضوابط والتشريعات التي تم توضيحها، والمتفقة تماماً مع ما يقره العقل وتفرضه الفطرة البديهية، وبالرغم من ذلك لم يجد هذا صدى نلاحظه على الأرض الواقعية خاصة أن كل ما يلزم الأمر من تشريعات قانونية قد تم إصداره بالفعل في عام 2010 حيث نصت المادة 5 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 5 لسنة 2010 بشأن تنظيم زراعة الأعضاء على "أن يكون التبرع صادرًا عن إرادة حرة لا يشوبها غلط أو تدليس أو إكراه ثابتًا بموجب إقرار كتابي من المتبرع معززا بشهادة اثنين من أقارب الدرجة الأولى أو مصدقا عليه من الشهر العقاري".
وتم تعزيز هذا القانون بمنشور فني تم اصداره لمصلحة الشهر العقاري والتوثيق رقم 28 لسنة 2022 للتيسير على المتبرعين الأحياء أو بعد الوفاة، ولكن كما يبدو لم يؤتي الأمر ثماره إلى الآن، وإن ظلت آليات التنفيذ للتبرع بعد الوفاة غير واضحة حيث أن سرعة النقل بعد الوفاة يعول عليها نجاح الأمر، فكيف سيتم ذلك وخاصة في الحوادث أو إذا لاقى العبد ربه بعيداً عن أهلِه!
وأتمنى أن يتم إدراج ذلك في بطاقات اثبات الهوية، ويا حبذا لو تم تزويد المتبرع بعلامة جسدية كالوشم ورجاء أن تتوقف المزايدات الدينية، فهناك أنواع اتفق الأئمة على جوازها، وفي سبيل الهدف الأعظم فالضرورات تبيح المحظورات، فذلك سيضمن سرعة النقل بعد الوفاة مما سيعظم النتائج.
التبرع بالأعضاء ليس فقط إنقاذ الأرواح ولكن أيضاً تحسين نوعية الحياة حيث تؤدي عمليات زرع الأعضاء إلى تحسين صحة المتلقين بشكل كبير، مما يسمح لهم بعيش حياة طبيعية وحقيقية وليست فقط ممارسة أسمية، كما أن التبرع بالأعضاء يعمل على خفض التكاليف الطبية التي تثقل كاهل المرضى، فعلى سبيل المثال يمكن لعمليات زرع الكلى الناجحة تقليل النفقات الطبية المرتبطة بغسيل الكلى.
وليس الممنوح فقط هو المستفيد بل المانح أيضاً فائدته أعظم بما سيضاعف الله له من ثواب وأي عمل أعظم من ذلك، كما أن أثر ذلك سيمتد للعائلات المانحة التي تجد التعزية والطبطبة القلبية على مصابها عندما تعلم أن أعضاء أحبائهم نابضة في أجساد حية ويالها من صدقة عظيمة جارية.
ولا تقتصر فوائد الأمر على العلاقة الطرفية بين المانح والممنوح بل يمتد ويتسع للمجتمع بأسره، فينعكس ذلك على تطوير البحوث الطبية وفتح آفاق أمام مواجهة تحديات الأمراض المستعصية، كما أن عملية التبرع بالأعضاء تسهم في أن تكون المجتمعات أكثر صحة وانتاجية، ولذلك يجب أن ينتشر الوعي بقيمة التبرع بالأعضاء واسهاماته ليس فقط في حيوات الأفراد ولكن انعكاساته على المجتمعات وكل البشرية.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن المتبرع الواحد يتبرع بالأعضاء والأنسجة أيضاً، الأعضاء تساعد في منح حياة لأكثر من 10 أشخاص يهبهم المتبرع بموته حياة، أي أن تبرعك يمكن أن ينقذ أكثر من 10 أرواح، ناهيك عن الأنسجة التي تعني أن المتبرع الواحد يمكنه التبرع بالعظام، الأوتار، صمامات القلب والأوعية الدموية، القرنية والصلبة العينية، الغضاريف والأنسجة الضامة مما يمكن أن يشفي ويُحسن حياة أكثر من 75 شخصًا، غير المستفيدين بالأعضاء الحيوية.
اتفقت الأديان السماوية على إعلاء قيمة الحياة والقيم التكاملية والمعيشية، من المحبة والإيثار والتعاون والعطاء، ففي الإسلام عندما سُئل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله أجاب بأن تدخل السرور على قلب إنسان أو تكشف عنه كربة أو تسد عنه ديناً، وما أشد من المرض كُربة ولا يوجد ما يمكن أن يكون ساراً كأن تهب لإنسان حياة، وهذا ما جاء في كتاب الله العظيم القرآن الكريم في قوله الحكيم "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا" (المائدة: ٣٢)، وأيضاً في قوله تعالى بسورة الحديد (٧) "آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه".
وفي المسيحية طالما ما تحدث المسيح عن الاهتمام بالمعوزين ووضح قائلاً: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ" (متى 25: 40). كذلك إستخدم المسيح مثل السامرى الصالح (لوقا 10: 25-37) لكي يؤكد على مبادئ اللطف والمحبة تجاه الجميع، واتخاذ كل ما يلزم لتخفيف الامهم والحد من معاناتهم.
لايوجد قيد عمري للتبرع بالأعضاء فصحة أعضائك هي التي تحدد أهليتك وليس عمرك، ولكن يوجد حد عقلي هو الذي يدفعك أو يحجمك عن هذا الفعل، فصحتك العقلية والنفسية والروحية هي التي ستجعلك تقدم على ذلك، وما الذي يمنعك أو يخوفك فالدين والشرع والقانون يدعمون هذا التصرف الحميد، إلا لو كنت تخشى على الدود الذي يتغذي على مافي اللحود أن يفتقد كليتك وقلبك ورئتيك!
يا صديقي لن يضير الشاه سلخها بعد ذبحها، ولن يخفف عنا ويعيننا ويشهد لنا إلا صدقة جارية خالصة لوجه الله ومخلصة لإعلاء قيم الإنسانية، قد تعيد أماً أو طفلاً أو أباً أو ابنا لبراح الضحكة النقية، فتقدم ولا تتردد عسى أن يكون عملاً يظللنا به الله بعرشه العظيم يوم لا ظل إلا ظله الرحيم، ولتكن لحظة النهاية بداية مع الله وعباده.