يأتي شهر أغسطس محملاً بعبق ذكرى اثنين من عمالقة الأدب العالمي في مجال الرواية والقصة القصيرة، نجيب محفوظ عميد الرواية العربية، ويوسف إدريس فارس القصة القصيرة.
يوسف إدريس ونجيب محفوظ كلاهما كانا مرآة عاكسة للبيئة الحاضنة لموهبتهما المتفردة، وتميز كلاهما بالجرأة في التناول، وكانت البطولة المطلقة في أعمالهما للنفس الإنسانية لكن بمعالجات مختلفة.
ارتكز أدب محفوظ على الحارة المصرية بتفاصيلها الدقيقة، في المقابل انحازت أعمال إدريس للطبقات الكادحة والمهمشين.
كانت قضايا نجيب محفوظ أقرب لهموم الناس في المدينة والأحياء الشعبية، بينما اقترب يوسف إدريس من الريف بتفاصيله الفريدة.
غلبت الرؤى الفلسفية والإنسانية العميقة في معالجات نجيب محفوظ، قابلها التمرد والواقعية الشديدة عند يوسف إدريس.
وبينما ارتكز التناول الأدبي عند يوسف إدريس على التصوير المادي الملموس للحياة من خلال السهل الممتنع؛ نجد أن نجيب محفوظ أضاف إليها نظرة وجودية، جعلت أعماله عابرة فوق حدود الزمان والمكان، فتحولت نماذجه الروائية إلى شخصيات عالمية، وهو ما استحق عليه جائزة نوبل.
روايات كاتب الحارة المصرية صُنفت ضمن الأدب الواقعي، واستوعبت ملامح وتفاصيل المجتمع، وبرعت في اختيار الشخصيات التي اتسمت بطابع فريد من نوعه لتعبر بواقعية عن الشخصية المصرية المتأثرة ببيئتها.
جاء إبداع محفوظ مكملاً لحقبة تاريخية لا يمكن فهمها فهماً صحيحا دون قراءة أعماله المتشبعة بالزمان والمكان، من خلال نص أدبي يتضمن مستويين، الأول واقعي والآخر فلسفي.
ومن الحارة وأزقتها انطلق محفوظ في تصوير النوازع الإنسانية وخفاياها النفسية الغامضة التي تعكس لغة واحدة، هي لغة الإنسان الحائر أمام الوجودية والمصير برؤية متجردة، من خلال البحث وراء المعاني الكبرى الكامنة، وصياغتها في نصوص أدبية تجاوزت الواقع المادي بدلالات وإيحاءات رمزية، وهو ما نقل رواياته من مستوى الكتابة الإبداعية إلى الرؤية الأعمق.
في حين تميز أدب "تشيخوف العرب" بجانب استثنائي لم يبدع فيه سواه وهو التفاصيل والجوانب التشريحية لشخصياته المحورية، التي كان شديد التعلق بها والإخلاص إليها، فلا يقحم عليها أوصافاً تنتمي إلى قاموسه النخبوي ككاتب مثقف، إنما يأتي بأوصافها من عمق بيئتها متسللاً إلى أعماق ودواخل الشخصية، وهذا ليس بالغريب عليه وهو الطبيب النفسي.
فإدريس لم ينتقِ شخصيات ملحمية، إنما التقط نماذج مطحونة تحمل قدراً كبيراً من المعاناة والقهر، وهي الشريحة التي أجاد التعبير عنها حيث انحيازاته، التي جاءت انعكاساً صادقاً لرقة مشاعر الأديب المتأثرة بالضعف الإنساني.
استطاع إدريس أن يتفرد مغردا في التعبير عن البسطاء وكشف عورات الواقع المصري، من خلال بانوراما أدبية واسعة للمجتمع المصري، مرصداً معه المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
اختلفت لغة السرد بين محفوظ وإدريس، فقد كان حسن استخدام نجيب محفوظ للسرد بآليات بلاغية رفيعة المستوى عبقرية أخرى، واختياره لألفاظ بمفردات ثرية جاء متناغماً مع معالجاته برؤى تراوحت بين الواقعية والتعبيرية والرمزية.
أما يوسف إدريس فقد وضع مفردات بلغة خاصة لأعماله، كانت فاعلة وليست ناقلة، وصلت لحد النبوغ الأدبي حيث لجأ إلى التعددية اللغوية، باستخدام الفصحى في لغة السرد منتقلاً بها من عليائها إلى الحوار بالعامية.
وجاء استحضار الصورة الذهنية بتفاصيلها الجغرافية التي تجعل القارئ يستحضر رائحة المكان وروح الزمان محملاً بعبق التاريخ من خلال البراح الإبداعي، نبوغاً آخر يضاف لعبقرية نجيب محفوظ في السرد الروائي.
قابله تفرد يوسف إدريس بالتفاصيل الدقيقة، من الكلمة إلى الجملة إلى الصورة التعبيرية، وانتقال من أدق تفصيلة إلى الظلال الجانبية التي تلقي على الموقف الكثير من المشاعر والأحاسيس لتكتمل الصورة الجمالية، فيتنقل القارئ محلقاً مع إدريس من الواقع إلى الخيال.
محفوظ وإدريس امتلكا الثراء والعمق الفكري الإبداعي، عبقريتان أضافا الكثير من السحر والإلهام للأدب العربي والعالمي.