تتصل بذاكرتنا العديد من القصص المرتبطة بالأشخاص الناجحين، والإنجازات التي شكلت فيصلاً في حياة الإنسان، وسمحت له بالانتقال من محطة السكون إلى محطة التقدم والتطور.
ولا يعتبر اللافت في مثل هذه القصص وجودها بحد ذاتها، بل أن اللافت في ذلك هو في من تتعلق هذه القصة، حيث إنها كلما ارتبطت بأشخاص محدودي الخيارات، وقليلي الإمكانات، مثل قلة الموارد المالية والدعم المعنوي، أو شح «الحظ» من الدنيا، والتي يمكن قياسه بمستوى خسارته المادية والمعنوية والحقيقية، مثل قصص النجاح التي ارتبطت بالأيتام، والفقراء، وقاطني القرى النائية البعيدة عن نبض المدن، وميزاتها.
وعلى الرغم من أن لكل زمان نصيباً من هؤلاء الأبطال، إلا أنني أعتقد أن في زماننا الحالي الحظ الأوفر، والنسبة الأكبر من الحرمان، مع اختلاف نوعه وكيفيته وطبيعته، حيث اعتدنا في هذا الزمان على مصادفة الغريب من كل شيء، حتى يصبح بعد فترة من الزمان داخل دائرة المألوف والطبيعي، ومن ذلك أن زيادة ما يمتلك الإنسان باتت دلالة على فقره وازدياد حاجته وحرمانه. ولتوضيح ذلك أكثر فإن ما حظى الإنسان اليوم في مجتمعاتنا من تعدد لوسائل المعرفة وسهولة للوصول محركات البحث ووفرة الإنترنت والتخمة المجتمعية من الأجهزة الالكترونية، واكتفاء أفراد الأسرة جميعاً بذلك من الطفل إلى الشاب إلى الكهل، باتت تمثل أكثر وسائل الحرمان والرفاهية في ذات الوقت.
فأما الرفاهية فما هي إلا دلالة سطحية مفرغة، فالقدرة على سهولة التواصل وإنجاز الأعمال على الأجهزة الإلكترونية وإلغاء الحدود بين دولة وأخرى وقارة وأخرى شابها الكثير من المعاني المختلطة، التي أدت إلى حالة مرضية يعالجها المختصون والمفكرون ويعبرون عنها بـ: «الإدمان الالكتروني»، وفي ذلك الكثير من الإشكاليات والمعاني التي تحتاج إلى تفصيل ومعالجة واحدة تلو الأخرى.
وأما ما يتعلق بالحرمان فإنها شكلت هذه الأدوات وسيلة لإشباع الإنسان بمختلف أشكال الحرمان منذ طفولته، فهي أولاً وسيلة للحرمان العاطفي للأطفال بانشغال أولياء أمورهم في هذه الأجهزة أغلب الأوقات، وهي حرمان أفراد الأسرة ذاتهم من التشارك والتفاعل في السياق الاجتماعي الذي كان يحوز الكثير من الحظ في الحب والانسجام والتعاون والتعلم الذي بات يتيماً في وقتنا الحاضر لانشغال كل واحد من أفراد الأسرة في عالمه الرقمي الوهمي الذي يسبح به، ويصول ويجول ليلاً ونهاراً، أضف إلى ذلك أحد أقسى أنواع الحرمان بعد ذلك الحرمان العاطفي الاجتماعي، وهو الحرمان المعرفي، حيث تسببت وفرة الوسائل والأدوات المعرفية ومحركات البحث الموجودة اليوم بكل سهولة وسلاسة في جميع الأجهزة الالكترونية إلى وأد الشغف والإرادة الإنسانية المعرفية التي يمكن تسميتها بـ: «التقليدية»، والتي أراها «جوهرية»، فأين شغف أبنائنا وطلبة العلم اليوم للاستزادة المعرفية والإصرار على البحث في أعماق أبحر العلوم، وهم محاطون من جميع الاتجاهات بتراشق معرفي ومعلوماتي متشابك ومشتت وغير منظم في الفضاء الإلكتروني الرقمي؟
إن كل ذلك وما هو أبعد من ذلك يعبر عن حاجة ملحة لاستجابة معرفية وعلمية وثقافية وفلسفية متناغمة ومترابطة ومتلاصقة مع الخبرة من ذوي الاختصاصات في المجالات الرقمية ومجالات الذكاء الاصطناعي، إيماناً منا بعدم القدرة على الانفصال أو الانفصام بين واقع الإنسان والحالة الافتراضية، ولكنه إيماناً وإلحاحاً وإصراراً في ذات الوقت على ضرورة الموائمة بين الاكتناز والثراء الرقمي، والمنهجية المنظمة في اكتساب المعرفة وشتى أنواع الثقافات والعلوم والمعلومات التي يحتاج إليها الإنسان في جميع مراحله التحصيلية التعليمية والثقافية الفكرية.
وإن هذا في الوقت ذاته هو السبيل الصحيح والمثالي للانتقال بالإنسان من المحدودية والتقييد المعرفي وجمود العملية الرتيبة «التلقينية» البحتة، إلى البراحة المعرفية التي يمكن من خلالها الجمع بين أكثر من أسلوب وأداة معرفية بطريقة تناغمية معيارية منهجية متزنة في كل مرة حلها ومعطياتها، مما يعني القدرة على تطوير معنى «التطوير» ذاته، حيث يتم الارتقاء به من مجرد التقدم في عدد سنوات الدراسة الأكاديمية، إلى إحداث التغيير الفعال والفعلي في الأسلوب والقدرة والمهارة، وهو بمعنى آخر «صناعة عقل»، وليس الاكتفاء بـ «صناعة شاغر» محدود الهدف والوسيلة.