تريد أن تكون سعيدا، لكن لا ضمان، فالحياة مغامرة موقوتة، و لا تعلم نفس ما تكسب غدا، ولا بأي أرض تموت. تريد أن تكون ناجحا، لكن قبل النجاح هناك جهد و صبر و ربما ألم، وحتى لو وصلت اليه، فربما جاء متأخرا بعد تعلق، و قد لا يفضي الي النتيجة التي طالما حلمت بها، تريد أن تكون ثريا، لكن لا طريق مضمونا، فان كان تفوقا دراسيا فكم من النابغين مازالوا في طي النسيان، يقاسون شظف العيش ومرارة الظلم و الإحباط، وإن كان الطريق انحرافا فقد تتعرض لمغبة عقاب القانون وقلة الشعور بالأمان. تريد أن تكون بصحة جيدة، فحتي لو أنعمت عليك الدنيا بصفات وراثية و بيئة معيشية صحية فكم من فقدوا أرواحهم في اوبئة و حوادث! تريد المجد و الشهرة و السلطة ! فما ادراك ما الثمن من صراعات و مخاطر و توتر، تعيشه حتي تصل ، و حتي تحتفظ بها ان استطعت. تريد ان تنعم بالصحة و المال و النجاح و المجد و السلطة و الشهرة معا، فحتي لو كنت متفردا و محظوظا فمن اين لك ان تعرف ما تدبره لك تقلبات الحياة و ضربات القدر!
إن عشت راغبا مصرا مجدا مراهنا علي دنياك ،لا ترى بديلا للهدف، فالتعلق مذلة بلا ضمان، و ان عشت منتظرا بقلق للمستقبل فانت لم تتمتع بحاضرك، و ان عشت متيقنا ببلوغك الهدف فانت تخاطر بالابتعاد عن الواقع و بالوقوع في شرك الإحباط و المرض ، ان لم تنجح، و ان عشت يائسا لاهيا ،فقد أضعت حياتك بلا جدوي ، وأصبحت حياتك بلا هدف إلا المتع المؤقتة، و بعضها مؤذي للنفس والغير، فما الحل!
يمكنك أن تفكر و تخطط، أن تجتهد و تسعي لأهدافك، و تبدلها، أو تغير أسلوبك و جهدك، إن واجهتك عقبات، لكن دون ان تفرض شروطا علي حياة لست خالقها، و لا تتحكم في أقدارها و مخاطرها، و ذلك بان تحترم القدر و النصيب، و انك مهما حاولت قد لا تدرك ما يخبئه القدر، و لا ما ينتظرك في كل اختيار، اخذت به او تجنبته، فالحياة تحتاج قدرا من التسليم و قدرا من الايمان الشاكر بالعناية الإلهية ، تحميك من المصائب، و تتطلب قدرا من العزيمة ؛ أن تحول المشكلة إلى فرصة للتطور البناء تعلما و إنجازا، فرب الخير لا يأتي إلا بالخير، و الايمان دافع للإنجاز، و العرفان يجلب المزيد من الخير. لكن ذلك الانغماس و ربما التمحور حول الذات و الصراع بين ما تريده و ما يعتمل داخلك قد يبدد الطاقة في توترات و إحباطات ، تقوض الصحة الجسمانية و النفسية، و تؤثر علي العادات و علي العلاقات الإنسانية، حتي لو كنت مجتهدا و شاكرا، و مؤمنا بالعناية الإلهية و القدر، فكيف تجعل حياتك الدنيا ممتعة رغم مخاطرها و آلامها !
لو تأملت تلك الاختيارات لوجدت ان منبع آلامها انك راهنت بكل شيء عليها، دخلت معركة بلا ضمان، و كرست حياتك لها، فنسيت ان تعيش، اخذت الدنيا علي قلبك ، فثقل عليه حملها، لأنك عشت داخل اهدافك و رغباتك و توتراتك و آلامك ، فماذا لو بذلت المستطاع ،و خرجت من قوقعة الذات، بان تعيش خارجها، تعيش صافيا راضيا مطمئنا من خلال الاخرين، حتي من خلال الكائنات، من خلال حكمة الحياة برفاهة الحس و عمق الإدراك ، يزيدك الفرح فرحا، و يزيدك مقاسمة الألم حكمة و إنسانية ، ان فعلت ذلك فإنك لم تحرق سفنك رهانا علي فوز غير مضمون في معركة الحياة، و ان فعلت ذلك لنمت داخلك مشاعر السماحة و السلام، و معاني المحبة و الاحتواء، وأحاسيس الاحترام والإحسان. ولأدى ذلك لحياة أكثر سعادة وعطاء، وأعمق زهدا و صفاء.
إن فعلت ذلك لعاش الآخرون داخلك، حتى وأنت وحدك، و لاحترمت خياراتهم ومدي نضجهم ورسالتهم في هذه الحياة دون ان تنتظر مقابلا، و بمراعاة ان ما انت فيه ليس فقط نتاج جهدك و قدراتك، بل أيضا نتاج ظروف المعيشة و فرص الحياة، و ربما لو كنت مكانهم بقدراتهم و نشأتهم و ظروفهم لفعلت مثلهم. ان فعلت ذلك لما اصبح في قلبك مكانا للكراهية، فدنيا الله حافلة بالخير و الشر، و لولا دفع الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض، فالتحدي بخيره و شره حافز للتطور و العمل، للتعلم و الإنتاج. و كلنا من خلق الله.
العيش خارج الذآت ان استطعت متعة الحياة و فنها، بل قل بداية حياة كما ينبغي، و العيش خارج الذآت يثري الحياة، و ينضج النفس، و يجلب اليها العلاقات الصادقة المحبة و القدرة على الإنتاج المبدع، و العيش خارج الذات يحل التناقض بين الأهداف و السعادة، فان كان الهدف لا يحقق السعادة بالضرورة، فالسعادة ليست الهدف، بل هي الطريق، طريق نسلكه بمحبة و شغف، محبة كدافع و أسلوب و كهدف يزيد منها، و يجعل رحلة الحياة الموقوتة نزهة للروح، و بلسما لحياة الآخرين. لكن العيش خارج الذات يقتضي إرادة متجددة ان تعرف إدارة طاقتك، و تحسن توجيه انتباهك الانفعالي، أن تكون الطرف الفاعل في الحياة و ليس مفعولا به ، الطرف الفاعل الذي يختار ما يفكر فيه، و يشعر به دوما بإيجابية ،دونما اهتمام بسلبيات و توترات تختلس الطاقة فتقوض حسن العمل و التعامل ، و تضعف القدرة علي التعلم و التوافق النفسي، العيش خارج الذات هو السهل الممتنع، و هو الهدف الصعب، لكنه يستحق، و ما لا يؤخذ كله لا يترك كله، فان اردت ان تعيش بفن الحياة، فلا بديل لاستمرار المحاولة، و استمرار التعلم، و استمرار الأمل.