في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها اليمن، ومع إعلان مجلس الأمن الدولي رفع العقوبات عن الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح ونجله، يعود الحديث مجددًا حول المسؤولية عن الدمار الذي حلّ بالبلاد، ودور صالح في تأجيج هذا الصراع. وفي هذا السياق، يتجدد النقاش حول تأثير ما يعرف بـ"ثورات الربيع العربي" على اليمن، ومدى مساهمتها في تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي، وما إذا كان صالح وحده يتحمل مسؤولية ما جرى.
وهذا ذكرني عندما أجريت الحوار مع أحمد الصوفي، السكرتير الصحفي لصالح وأحد أقرب مستشاريه، كنت مملوءًا بالتساؤلات والمشاعر المتناقضة. كنت أسعى لفهم الدور الحقيقي الذي لعبه صالح في الأحداث التي عصفت باليمن. الصوفي كان واضحًا في موقفه، إذ دافع بحماسة عن صالح، مصورًا إياه كزعيم وطني حاول بكل ما أوتي من قوة الحفاظ على اليمن من الانهيار. ووفقًا لرواية الصوفي، فإن صالح كان في موقف لا يُحسد عليه، حيث وجد نفسه محاصرًا بين مؤامرات داخلية وضغوط خارجية، ولم يكن أمامه سوى اتخاذ قرارات صعبة لإنقاذ البلاد.
كان شعور الاستنكار يتملكني وأنا أستمع إلى دفاعه المستميت عن صالح. فقد رسم الصوفي صورة لصالح تختلف تمامًا عن الصورة السائدة في الأذهان، صورة الزعيم الذي كان يحاول بكل ما أوتي من قوة الحفاظ على اليمن من الانهيار، ولكنه واجه ظروفًا أكبر منه. كان الصوفي يصف صالح كرجل دولة حقيقي، يعاني من مؤامرات داخلية وخارجية، ويسعى جاهدًا لتحقيق الاستقرار. لكن رغم تلك الحجج القوية، لم أتمكن من تجاوز شعوري العميق بالرفض لهذه الرواية.
كمهني في مجال الصحافة، كان من واجبي أن أتناول هذه القصة وأعرض وجهات النظر المختلفة. لم يكن الأمر سهلًا، خاصة وأنني كنت وما زلت أرفض فكرة تبرئة صالح من المسؤولية. لكن المهنيّة تتطلب منا نقل الحقائق بحيادية، وتقديم الصورة الكاملة للقارئ، ليتمكن هو من تكوين رأيه الخاص.
مع قرار مجلس الأمن برفع العقوبات، نشهد اليوم محاولة دولية لإعادة تقييم دور صالح في اليمن. ربما يكون هذا القرار جزءًا من محاولة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في اليمن، أو ربما يعكس تحولًا في السياسات الدولية تجاه الصراع. ولكن مهما كانت الأسباب، فإن الحقيقة التي لا يمكن التغاضي عنها هي أن الحكم الحقيقي على صالح لا يمكن أن يصدر إلا من الشعب اليمني نفسه. فهم الذين عاشوا تحت حكمه، وهم الذين تأثروا بقراراته، وهم الذين عانوا من نتائج الحرب التي كانت، بشكل أو بآخر، نتيجة لسياساته.
لكن في خضم هذا الحوار، لم أستطع تجاهل السياق الأوسع للأحداث. "الربيع العربي" الذي اجتاح المنطقة في 2011 حمل معه آمالًا في التغيير، لكنه أيضًا أسهم في خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في عدة دول، بما في ذلك اليمن. لقد كان "الربيع العربي" بمثابة شرارة أشعلت التوترات الكامنة في المجتمعات، وأطلقت العنان لقوى جديدة لم تكن مستعدة لتحمل مسؤولية إدارة الدول التي دخلت في دوامة التغيير.
في اليمن، كانت هذه التحولات أكثر تعقيدًا. البلاد كانت تعاني من هشاشة سياسية واقتصادية حتى قبل انطلاق الاحتجاجات الشعبية. وعندما اندلعت الثورة ضد نظام صالح، كانت هناك آمال كبيرة في تحقيق الديمقراطية والعدالة، لكن ما حدث بعد ذلك كان أبعد ما يكون عن التوقعات. انهيار الدولة، الذي بدأ مع رحيل صالح عن السلطة، تسارع بشكل كبير بعد الثورة، حيث لم تتمكن القوى السياسية الجديدة من الحفاظ على استقرار البلاد. بل على العكس، أدت تلك التحولات إلى تصاعد النزاعات الداخلية، وفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية زادت من تعقيد المشهد.
لهذا، لا يمكن تحميل صالح وحده مسؤولية ما حدث في اليمن.
"الربيع العربي"، رغم نواياه التي يدعي البعض انها حسنه، ساهم أيضًا في تفجير الصراعات الداخلية، وزيادة حدة الانقسامات التي كانت قائمة. هذه الثورات لم تكن مجرد حركة شعبية، بل كانت أيضًا بداية لفترة جديدة من عدم الاستقرار، ساهمت في تمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد. صالح، بقراراته وسياساته، كان جزءًا من هذا المشهد، لكنه لم يكن الفاعل الوحيد.
وفي ظل هذا السياق، يمكن أن نفهم كيف أن رفع العقوبات عن صالح يثير الكثير من التساؤلات. هل يمكن اعتبار هذا القرار بمثابة تبرئة لصالح؟ أم أنه مجرد جزء من لعبة سياسية دولية تهدف إلى إعادة ترتيب الأوراق في اليمن؟ وبغض النظر عن الإجابة، فإن الحقيقة التي يجب أن تبقى في الأذهان هي أن الحكم النهائي لا يمكن أن يصدر إلا من اليمنيين أنفسهم.
الشعب اليمني هو الذي عاش تحت حكم صالح، وهو الذي دفع الثمن الباهظ للحرب والصراع. هم وحدهم القادرون على تحديد المسؤولين الحقيقيين عما حدث. قد تكون هناك تبريرات وتحليلات سياسية كثيرة، ولكن في النهاية، الشعب اليمني هو الذي يعرف الحقيقة، وهو الذي يملك الحق في إصدار الحكم النهائي.
في نهاية المطاف، مسألة براءة علي عبدالله صالح أمام التاريخ ليست مجرد قضية سياسية تُحسم بقرار دولي أو برواية فردية. إنها قضية إنسانية وأخلاقية تتعلق بمصير شعب بأكمله. ما حدث في اليمن كان نتيجة لعدة عوامل متشابكة، منها سياسات صالح ومنها تأثيرات "الربيع العربي". ولكن الأهم من كل ذلك هو أن القرار النهائي بشأن ما حدث يجب أن يكون في أيدي اليمنيين، فهم أصحاب القصة الحقيقية وهم الذين سيكتبون تاريخهم بأنفسهم.
وفي ظل كل هذه التعقيدات، كان من واجبي كصحفي أن أنقل الحقيقة بأمانة، وأن أترك الحكم للشعب اليمني وللتاريخ. قد يتغير الموقف الدولي، وقد تتبدل التحالفات، لكن معاناة الشعب اليمني تبقى هي الحقيقة الثابتة، والوحيدة التي تستحق أن نركز عليها في كل نقاش حول مستقبل اليمن.