قال الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة ، إمام وخطيب المسجد الحرام، إن اللهَ سبحانه وتعالي خلقَ النفسَ البشريةَ، وأودعهَا طبائعَ وأخلاقاً، لتكونَ أكثرَ اِئتلافاً واتِّفاقاً، لِما يعرضُ لها في دينِها ودُنياها.

لتكون أكثر اتفاقا

وأوضح " بليلة" خلال خطبة الجمعة الأولى من صفر من المسجد الحرام بمكة المكرمة ، أن الحُبُّ والبُغضُ، والرِّضا والسُّخْطُ، والحِلْمُ والجَهْلُ، والأَناةُ والعجلَةُ، والجُودُ والبُخْلُ، كلُّ أولئكُمُ وغيرُها من الأخلاقِ ممَّا جُبلتْ عليهِ تلكَ النفسُ ولابُدَّ، ولم يخلُ منهَا مهمَا عَظُمَ أحدٌ.

وأضاف أن أمر الله عز وجل جاءَ لعبادهِ تَشْريعًا وتَكْلِيفًا، بِتزكِيَة هذه النفسِ وتَهذِيبِهَا، لِيُسْلَكَ بها سَبِيلُ المُتَّقِينَ، ويُنْتَهَجَ بها نهْجُ الصَّالِحينَ المُصْلِحِينَ، منوهًا بأنَّ مِن أعظَمِ هذهِ الطَّبائعِ أثراً على العبادِ، خُلُقَ الإِلْفِ والِاعْتِيادِ، وهُوَ في ذاتِهِ خُلُقٌ يَدُلُّ على استكمالِ النِّعَمِ ودوامِها، وثُبُوتِها واستقرارِها، واستمرارِها واستمرائِها .

وتابع: وهُوَ لعَمْرُ اللهِ خُلُقٌ ينبَغِي أن يدفَعَ بالمؤمنِ إلى مَزيدٍ مِن الشُّكرِ والاِعترافِ، والتَّوْبةِ والاِزْدِلافِ، موصيًا المسلمين بتقوَى اللهِ سبحانه وتعالى ، وشكره على ماحباهم بهِ وأسداهُ، وعلى ما خصَّهم بهِ وأولاهُ، فنِعمُ اللهِ جل وعلا عليكُم تترَى، لا تُعَدُّ ولا تُحصَى .

المقوم الأكبر

وأفاد بأن الإلفُ هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءِ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ، والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ، إذا ما عوَّدَ صاحبَهُ على الطاعةِ، وربَّاهُ على البِرِّ والعبادةِ، فيألَفُ العباداتِ، ويعتادُ فعلَ الخيراتِ، مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتِلاوَةٍ للقرآنِ، وصِلةٍ للأرحامِ، وسعيٍ في تَفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، وصُنعِ المعروفِ وإغاثةِ الملهوفِ.

وأشار إلى أن هذا إلفٌ محمودٌ، مرغَّبٌ فيهِ مقصودٌ، يُشكرُ عليهِ صاحبُهُ، ويزدانُ بهِ حائزُهُ، حينَ يقودُ نفسَهُ لدروبِ الطاعاتِ، فتصبحُ لهُ عادةً، يصعُبُ عليهِ انفكاكُهُ منهَا، ولا يَتَصَوَّرُ نفسَهُ بدُونِها، وهذَا وأَيْمُ اللهِ لهو التَّوفِيقُ للهِدَاية وللبِرِّ، ولِلصَّلاحِ وطِيبِ الأثرِ، موضحًا أن أضربِ الإلفِ المحمودِ ما أودعهُ اللهُ في الإنسانِ من تعوُّدٍ على المصائبِ، وقُدرةٍ على تحمُّلٍ المتاعبِ.

واستطرد: ولولَاهُ لما صفتْ حياةُ أولئكَ الذينَ نزلتْ بهِمُ الشدائدُ، وأحاطتْ بهِمُ المُدلهِّماتُ؛ لأنَّ صدمةَ المصيبةِ إنَّما تؤلـِمُ أوَّلَ حدوثِها، كما قال صلى الله عليه وسلم: « ‌إِنَّمَا ‌الصَّبْرُ ‌عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.» متفقٌ عليهِ، ثُم ما إن تلبَثُ حتَّى تخِفَّ وطأتُها، ويسهُلَ أمرُها، فتتقبَّلُها النفسُ وترضَى بها، تسلِيمًا للهِ وإذعانًا، ورِضًا بقضاءِ اللهِ وقَدرِهِ وإيماناً، وهذهِ مِن النِّعمِ الَّتي تستوجبُ الشكرَ، ذلكَ أنَّ المصائبَ لا يدومُ أثرُها، إذاً فتتنغَّصُ حياةُ أصاحبِها، ويعسُرُ عليهِم قَبولُها.

إلف مذموم

ونوه بأن هناكَ إِلفٌ مذمومٌ، صاحبُهُ ملومٌ، وهو إلفُ نِسيانِ النِّعمِ، والغفلةُ عن ذكرِها وشُكرِها، وذلكُمْ هو بَريدُ كُفرانِها، المُؤذنُ بزوالِها، فلا يَعتَرِفُ للهِ بنعمَةٍ، ولا يُقِرُّ له بِمنَّةٍ، ورُبَّما نَسبَها إلى نفسِهِ وإلى آبائِه وأجدادِهِ، كُفرًا منهُ وجُحودًا ، مبينًا أن معالجةُ ذلكَ، إنَّما تكونُ بالحرصِ على عَدِّ النِّعمِ واستشعارِها، والاعترافِ بها للمُنعمِ وادِّكارِها، وإعقابِ ذلكَ حمدًا وشكرًا، قولًا باللِّسانِ وفعلًا.

ولفت إلى أنَّ أَقْبَحَ أنواع الإلفِ: إِلْفُ المَعْصِيَةِ واعتيادُها، والتغافُلُ عن شُؤمِها وبلائِها، وأشنعَ مِن ذلكَ: عدَمُ التأثُّمِ مِن فعلِهَا، وعدَمُ التأَلُّمِ من مُقارفَتِها، حتَّى تُصبِحَ كأنَّها مِن قَبِيل المُباحاتِ، حينهَا يُختمُ على قلبِ صاحِبها، وهذِهِ لعمرُ اللهِ مِن أعظَمِ العُقوباتِ، الَّتي تستنزِلُ غضبَ رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ .

وبين أن الشفاءُ من ذلكَ بأوانِ الأَوْبةِ، ودوامِ التَّوبةِ، حتَّى تبقَى في النفسِ وحشَةٌ مِن كُلِّ معصيَةٍ وخطيَّةٍ، ونُفرةٌ مِن كُلِّ زَلَّةٍ ورَدِيَّةٍ، وذلكَ من أماراتِ الإيمانِ، في جامعِ الترمذيَّ وصححَهُ، قال صلى الله عليه وسلم « ‌مَنْ ‌سَرَّتْهُ ‌حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ ».