ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (ما الصدقة الجارية؟ وما صورها المعاصرة؟ أرجو الإفادة وجزاكم الله خيرًا.
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال إن الصدقة الجارية: هي كل ما يفعله المسلم من وجوه الخير الذي يبقى عينه، ويجري نفعه إلى غيره، فيكون ثوابها لصاحبها في حياته وبعد موته، ففيها إبقاء العين مع إباحة الانتفاع بها، أو ثمرتها، أو تمليك ما تبقى من ريعها للمتصدَّق عليه -سواء كان شخصًا مُعيَّنًا أم جهة- مدة بقاء العين، سواء بدأت هذه الصدقة في حياة المتصدِّق صاحب العين، كما في الوقف، أو بعد مماته كما في الوصية بالمنافع على التأبيد وسواء قام بها الشخص بنفسه أو قام بها عنه غيره من الناس.
قال العلامة العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (1/ 135، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): «الصدقة الجارية تُحمل على الوقف، وعلى الوصية بمنافع داره، وثمار بستانه على الدوام، فإن ذلك من كسبه لتسببه إليه، فكان له أجر التسبب» اهـ.
وقال القاضي عياض المالكي في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 145، ط. المكتبة العتيقة) في تفسير الصدقة الجارية هي ما «يجري نفعها، وأجرها يدوم» اهـ.
وقال الملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (1/ 285، ط. دار الفكر) عن الصدقة الجارية: «يجري نفعها فيدوم أجرها، كالوقف في وجوه الخير» اهـ.
وأوضحت دار الإفتاء أن كل ما يفعله المسلم من خيرٍ يثاب عليه، فإذا تجاوز نفعه إلى غيره كان مثابًا على ذلك أيضًا إلى أن ينتهي أَثَر فعله.
وأضافت أن الأصل في مشروعية الصدقة الجارية: قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [يس: 12].
قال العَلَّامة أبو القاسم الزمخشري في "تفسيره" (4/ 7، ط. دار الكتاب العربي): «﴿نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ نبعثهم بعد مماتهم... ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلمٍ علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبيس حبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك» اهـ.
وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، أَنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: «إِن شئت حبست أصلَهَا وتصدقت بها»، قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول. أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلَّا من ثلاثة: إلَّا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». أخرجه مسلم في "صحيحه".
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (11/ 85، ط. دار إحياء التراث العربي): «قال العلماء: معنى الحديث أنَّ عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها ... وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف» اهـ.
فكل ما كان وقفًا يكون مصرفًا للصدقة الجارية: كبناء المساجد والمدارس والمقابر للمحتاجين، وكذا إنشاء المعاهد العلمية والبحثية كالجامعات والمستشفيات والمراكز الصحية ومراكز محو الأمية، ويدخل فيه أيضًا بناء الجسور، وشق الأنهار والترع، واستصلاح الأراضي، وبناء الحصون للدفاع عن الأمة، وطباعة المصاحف، وكتب العلم النافع وتوصيل الماء والكهرباء والخدمات للمحرومين، وإقامة جمعيات خدمية وتطوعية للزواج، وما شابه ذلك ممَّا يُحقق غرض دوام الخير وتعدية النفع.
ودليل ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سبعة يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّمَ عِلمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّثَ مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته». رواه البيهقي في "شعب الايمان".
وقد نصَّ الفقهاء على جملة من أمثلة الصدقة الجارية التي حُبِسَ أصلها، وأُجريت منفعتها، ومن جملة ذلك: حفر الأنهار والآبار، وبناء الديار والمساجد والمصانع والمقابر والقناطر، ووقف الشجر والحيوان والسلاح على الغزاة، ووقف المصحف والكتب على طلبة العلم، وفرش المسجد، وغير ذلك مما يبقى عينه ويدوم نفعه، كما حَقَّقه وذَكَره العَلَّامة السرخسي في "المبسوط" (12/ 32، ط. دار المعرفة)، والإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (6/ 18، ط. دار الفكر)، والخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 110، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة البهوتي في "كشاف القناع" (4/ 243، ط. دار الكتب العلمية).
وبناءً على ذلك وفي السؤال: فالصدقة الجارية هي كل ما يفعله المسلم من وجوه الخير الذي يبقى عينه، ويجري نفعه إلى غيره، فيكون ثوابها لصاحبها في حياته وبعد موته، سواء بدأت هذه الصدقة في حياة المتصدِّق صاحب العين، أو بعد مماته، وسواء قام بها الشخص بنفسه أو قام بها عنه غيره من الناس، ومن صورها المعاصرة: عمل وصلات المياه، وأسقف المنازل، والأطراف الصناعية، وإعمار المساجد، وترميم المدارس والمستشفيات، وتشجير الشوارع، وغير ذلك مما يَبْقَى عينه ويمتد أَثَرُه.