قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

صدى البلد

د. محمد بشاري يكتب: الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع

د. محمد بشاري - أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
د. محمد بشاري - أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
×

انعقد المؤتمر العالمي التاسع لدور وهيئات الإفتاء في العالم في القاهرة يومي 29 و30 يوليو تحت شعار "الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع"، حيث تمحورت النقاشات حول دور الفتوى في صياغة الأخلاق وتوجيه المجتمعات وسط التغيرات السريعة والتحديات المتجددة. الفتوى في الإسلام ليست مجرد حكم شرعي، بل هي انعكاس للقيم الدينية والأخلاقية، مما يجعلها أداة فعالة لبناء مجتمع أخلاقي قادر على التكيف مع المتغيرات دون التفريط بثوابته.

الفتوى في الإسلام تتمتع بدور محوري يتجاوز الإرشاد الديني لتصبح وسيلة لتأصيل القيم الأخلاقية في نفوس المسلمين. إنها تجسد العلاقة الوثيقة بين الشريعة والأخلاق، حيث تتطلب الفتاوى من العلماء والمفتين ليس فقط معرفة النصوص الشرعية، بل أيضًا القدرة على فهم الواقع المعاصر وتحدياته. بهذا الفهم العميق، تصبح الفتوى جسراً يربط بين القيم الثابتة والتغيرات المستمرة، مما يساعد على تحقيق توازن بين الأصالة والمعاصرة.

إن البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية يعتمد بشكل كبير على هذا التفاعل بين الفقه والأخلاق. الفقه، كعلم ينظم حياة المسلمين وفقًا للشريعة، يعتمد في استنباط أحكامه على أصول الفقه التي تضع القواعد والمبادئ المستمدة من القرآن والسنة والإجماع والقياس. أما الأخلاق، فهي روح الشريعة ومقصدها الأسمى، تهدف إلى تهذيب النفس وتوجيهها نحو الخير والفضيلة. لذا، فإن التكامل بين الفقه والأخلاق يضمن أن تكون الأحكام الشرعية ليست مجرد قواعد جافة، بل توجيهات حية تستند إلى القيم والمبادئ الأخلاقية.

الأخلاق في الإسلام ليست مجرد توصيات سلوكية، بل هي جزء لا يتجزأ من العقيدة والشريعة. تهدف إلى تهذيب النفس البشرية وتوجيهها نحو الفضيلة والخير، مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية. الأخلاق تعبر عن القيم والمبادئ التي يجب أن يتحلى بها المسلم في تعامله مع الله، ومع نفسه، ومع الآخرين. الفقه هو العلم الذي يعنى بفهم وتطبيق الأحكام الشرعية المستمدة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، ويهدف إلى تنظيم حياة المسلمين وفقًا للشريعة الإسلامية. أما أصول الفقه فهي القواعد والمبادئ التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية وتوضح كيفية استخدام الأدلة الشرعية وتطبيقها على الوقائع المختلفة.

الأخلاق والفقه يرتبطان ارتباطًا وثيقًا في الإسلام، حيث توفر الأخلاق الإطار القيمي الذي يوجه الفقه ويضبطه، ويجب أن تكون الأحكام الفقهية متوافقة مع المبادئ الأخلاقية. الفقه بدون الأخلاق يمكن أن يصبح مجموعة من القواعد الجافة التي تفتقر إلى الروح والقيم. على سبيل المثال، يعالج الفقه قضايا مثل الصدق والأمانة والعدل في المعاملات، وهذه القضايا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأخلاق. التكامل المعرفي بين الأخلاق والفقه يضمن أن تكون الأحكام الشرعية عادلة وشاملة، تحقق التوازن بين الحقوق والواجبات.

في عالمنا المعاصر، تتزايد التحديات الأخلاقية بتسارع التطورات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية، مما يجعل دور الفتوى في البناء الأخلاقي أكثر أهمية من أي وقت مضى. الفتوى ليست مجرد إجابة عن سؤال ديني، بل هي عملية بناء وتوجيه تتطلب من العلماء فهمًا عميقًا للتغيرات الجارية وقدرة على توجيه المجتمع نحو التكيف معها دون فقدان هويته الأخلاقية. هذا يتطلب تطوير الفقه وأصوله بحيث يتمكن من مواجهة التحديات المعاصرة بمرونة وفعالية، مع الحفاظ على الثوابت الدينية والأخلاقية.

بهذا الفهم المتكامل، يمكن للفتوى أن تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز البناء الأخلاقي في المجتمعات الإسلامية. من خلال التركيز على القيم الأخلاقية المستمدة من القرآن والسنة، يمكن للفتوى أن تكون أداة فعالة ليس فقط في توجيه الأفراد، بل في بناء مجتمع قائم على العدل والرحمة والفضيلة. إن هذا الدور المحوري للفتوى يعكس حكمة الشريعة الإسلامية وعمقها، مما يجعلها قادرة على التكيف مع التغيرات المستمرة وتوجيه المجتمع نحو الخير والصلاح في كل زمان ومكان.

الفقيه المسلم في هذا السياق ليس مجرد ناقل لأحكام الشرع، بل هو موجه أخلاقي يحمل على عاتقه مسؤولية تربية المجتمع على القيم النبيلة والمبادئ السامية. هو الذي يعبر بالأمة من مجرد الامتثال الشكلي للأحكام إلى الالتزام الروحي العميق بالأخلاق الإسلامية، مما يؤدي إلى بناء إنسان صالح، وأسرة متماسكة، ومجتمع متكافل يسوده التآخي والتراحم.

هذا التكامل بين الفقه والأخلاق لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال اجتهاد مستنير يراعي مقاصد الشريعة ويتفهم الواقع بتعقيداته. اجتهاد يتطلب من الفقيه أن يكون على دراية ليس فقط بالنصوص الشرعية، بل أيضًا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، حتى يتمكن من تقديم فتاوى تتسم بالعمق والشمولية، وتلبي حاجات الناس وتحقق مقاصد الشريعة في تحقيق العدل والرحمة والمصلحة العامة.

إن التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم تتطلب من الفقهاء والمؤسسات الإفتائية أن يتبنوا منهجية شاملة تتكامل فيها الأخلاق مع الفقه، وتستجيب للتغيرات السريعة دون المساس بالثوابت. الفتوى في هذا الإطار ليست مجرد حكم شرعي، بل هي عملية بناء أخلاقي ومجتمعي تعزز القيم الإسلامية وتحقق السلم الاجتماعي والتوازن في حياة المسلمين.

بهذا الفهم العميق لدور الفتوى والأخلاق في البناء المجتمعي، يمكننا أن نواجه التحديات المعاصرة بثقة ووعي، ونحقق مجتمعًا مسلمًا متماسكًا يسوده العدل والرحمة والتعاون، ويكون نموذجًا يُحتذى به في العالم.