فوجئ الدكتور أياديل سباربيكوف، رئيس فريق الطوارئ الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية في غزة والضفة الغربية، خلال زيارته غزة في أواخر الأسبوع الماضي، بمشهد أصبح مألوفًا منذ بدء الحرب، وهو أن مياه الصرف الصحي تتدفق في الشوارع، والأطفال الصغار يقفزون ويلعبون فيها.
وانتاب رئيس فريق الطوارئ الصحية، شعور بالخوف عندما علم بأن الأمراض ربما تنتشر في المياه، ثم سمع عن مصدر قلق آخر ليضيفه إلى قائمته، وهو مرض شلل الأطفال، حيث ظهر الفيروس في مياه الصرف الصحي في الجيب الضيق.
فمنذ أكثر من 25 عاماً، ظل قطاع غزة خالياً من شلل الأطفال، ولكن في الأسبوع الماضي، تم اكتشاف شلل الأطفال في ست من أصل سبع عينات روتينية من مياه الصرف الصحي، وبحسب تقرير نشرته صحيفة NPR الأمريكية، يقول ساباربيكوف، رئيس فريق الطوارئ الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية في غزة والضفة الغربية: "إنه مرض خطير للغاية، وفي ظل الوضع في غزة، فهو أكثر من خطير".
تحقيق دولي
بحسب الصحيفة الأمريكية، فقد أثارت هذه الأنباء تحقيقاً دولياً، ففي هذا الأسبوع، وصلت فرق من المحققين إلى غزة وانتشروا بحثاً عن حالات نشطة من شلل الأطفال، وهم يجمعون عينات من البراز، ويجرون مقابلات مع الآباء والأمهات، ويفحصون السجلات الطبية بحثاً عن حالات الشلل، وهو أحد أخطر أعراض المرض، وحتى الآن لم يعثروا على أي حالات، لكن خبراء الأمراض المعدية يقولون إنه من المرجح أن ينتشر بصمت بين السكان مع حالات خفيفة أو بدون أعراض.
ويأمل المحققون أيضًا في الحصول على صورة لرحلة الفيروس عبر غزة وما يجب فعله حيالها، وذلك بهدف الوصول إلى حقيقة الأمر، كما يقول ساباربيكوف، ويضيف: "كيف حدث هذا؟ متى حدث؟ وأين حدث؟، فقد بدأت الأدلة تظهر".
كيف؟ متى؟ أين؟
وبحسب ساباربيكوف فإن المعلومات القيمة جاءت عندما تدخلت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة لإجراء تسلسل الجينوم، فقد ربطوا الفيروس الذي تم العثور عليه في غزة بسلالة منتشرة في مصر العام الماضي، ويقول ساباربيكوف: "كان من الممكن أن يتم جلبها من قبل أي شخص بما في ذلك المهربين وسائقي الشاحنات، وتقدر مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أنه من الممكن أن يتم جلبها في وقت مبكر من سبتمبر 2023، حتى قبل بدء الصراع".
فيما يقول الدكتور أولاكونلي ألونج، مدير مركز سباركمان للصحة العالمية بجامعة ألاباما في برمنجهام، إن هذا الجدول الزمني التقريبي معلومات مهمة للغاية، ويضيف أنه مؤشر على أن الفيروس من المرجح أن ينتشر بين الكثير من الناس، مما يعني أن هناك فرصة جيدة لتحوره وازدياد ضراوته، وبالتالي زيادة احتمالية إصابة الناس بالمرض.
ويوضح ألونج أنه عندما سمع لأول مرة عن ظهور فيروس شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي في غزة "لم يكن الأمر مفاجئًا" لأن حالات شلل الأطفال غالبًا ما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحرب والصراع، ويشير إلى نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وسوريا، ويوضح أنه عندما تعطل الاضطرابات برامج التطعيم ضد شلل الأطفال وتلحق الضرر بالبنية التحتية للصرف الصحي - وكلاهما حدث في غزة - فإن المسرح مهيأ لتفشي شلل الأطفال.
شلل الأطفال البري مقابل شلل الأطفال الناتج عن اللقاح
ووفقا للصحيفة الأمريكية، فإن إلقاء نظرة فاحصة على العينة المأخوذة من غزة يكشف عن حقيقة أخرى أيضاً، وهي أن هذا الفيروس ناجم عن لقاح شلل الأطفال، ومع تراجع حالات شلل الأطفال البري، أصبح شلل الأطفال الناجم عن اللقاح يمثل مشكلة متنامية في أجزاء من العالم اليوم، فإن لقاح شلل الأطفال الفموي ــ الذي لا يستخدم في الولايات المتحدة ولكنه يستخدم في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض ــ يحتوي على فيروس شلل الأطفال الحي الضعيف، وهذا اللقاح يعمل بشكل جيد مع الشخص الذي يتم تطعيمه، فهو ضعيف بما يكفي بحيث لا يصاب بالمرض ولكنه قوي بما يكفي لبناء مناعة مدى الحياة.
والمشكلة هي أنه بعد بضعة أسابيع من ابتلاع الجرعة، يمكن للشخص أن يتخلص من الفيروس الضعيف في البراز وفي مياه الصرف الصحي، ومن هناك يمكن أن يتحور الفيروس ويستعيد قوته ويصيب شخصًا غير مطعّم ويتلامس مع مياه الصرف الصحي الملوثة، وقد شرع راؤول أندينو، عالم الأحياء الدقيقة بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، في حل هذه المشكلة، فقام بتعديل الجينوم الفيروسي المستخدم في اللقاح لتقليل احتمالات تحوره.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية، وساعد أندينو في ابتكار لقاح جديد لشلل الأطفال "أكثر أمانًا بمئة مرة"، على حد تعبيره. "الأمر أشبه بقيادة سيارة من الخمسينيات، والآن تقود سيارة من عام 2020"، وقد تم ترخيص استخدام لقاحه الجديد - nOPV2 - منذ بضع سنوات وتم نشره في عشرات البلدان، ومع ذلك، لا يوجد ما يكفي منه، وهذا يعني أن الإصدار القديم لا يزال قيد الاستخدام، ويقول أندينو: "لهذا السبب فإن الجهود المبذولة في الوقت الحالي تهدف إلى إنتاج جرعات كافية للجميع".
ماذا الآن؟
وفي غزة، يقول ساباربيكوف إن المحققين مشغولون بالعمل في محاولة تحديد الفئات السكانية الأكثر عرضة للخطر، كما يحاولون إعادة تثقيف مقدمي الرعاية الصحية على وجه السرعة، والذين من المرجح أنهم لم يروا حالة واحدة من شلل الأطفال من قبل، ويضيف: "إذا لم تلاحظ أي مرض بعد 25 عامًا، فقد تنسى ببساطة شكله"، موضحًا أنهم يذكّرون الأطباء بالأعراض وكيفية تخزين عينة البراز للاختبار.
ويقول ساباربيكوف إنه نبه مقر منظمة الصحة العالمية واليونيسيف إلى أنهما قد يحتاجان إلى القيام سريعاً بحملة تطعيم جماعية ضد شلل الأطفال باستخدام لقاح شلل الأطفال الجديد الأكثر أماناً.
وقبل الحرب، كانت نسبة تغطية التطعيم ضد شلل الأطفال في غزة تتجاوز 95%، ولم تعد كذلك الآن، فقد بلغت الآن رسميا 89%، لكن سباربيكوف يقول إن النسبة ربما تكون أقل من ذلك حيث هناك عدد من الأطفال لا نستطيع الوصول إليهم، ولا نعرف ما إذا كانوا على قيد الحياة، أو ما إذا كانوا قد تلقوا التطعيم".
ومن المقرر أن يتسلم يوم الأحد تقريرا يتضمن نتائج التحقيقات وتوصياتها، وهو يستعد لحملة تطعيم محتملة وما قد تعنيه هذه الحملة، وقال: "أول ما خطر ببالي هو كيف سنتمكن من القيام بهذا في منطقة حرب نشطة؟ إنها مهمة ضخمة تنتظرنا".