للمصريين حضارة، بصمة وأثر كالمنارة، لهم في كل منحى عِبارة لا تخطئ بريقها عين الزمن السيارة ولا تنكرها حتى النفوس الغيارة، وأي تعطل أو تباطؤ مرت به على مر العصور هو عثرة وبعض غُبارة، سرعان ما تتعافي وتمضي وكأن ما كان لم يكُن.. اللهم إلا هذا القدر من الإثارة، التي تستلزم التأريخ ليُكتب التاريخ بنغمات متوازنة وفيها حرارة ولكن موضوعية بجدارة، فحال الدنيا ألا يخلو الأمر من الناس الغدارة، ونحن ما نبغي إلا حماية تراثنا وقصصنا حتى لا نشعر يوماً بالمرارة.
دائماً نحن السباقون، في كل ما يخطر ببالك كان أجدادنا هم الأولون، حتى في نظام التداول بالعملات كان قدماء المصريين خلاقون مبدعون، فبينما العالم استغرق قروناً وهو يعتمد على المقايضة، كانت مصر تصدر ما يعرف الآن بالشيكات! فهل تتخيل عزيزي ما بلغته تلك الحضارة من مقامات.
من 3100 عام قبل الميلاد، وبينما العالم يغرق في سبات، استخدم المصريون القدماء جهاز قياس الوزن المعروف باسم الدبن باعتباره الوزن القياسي، كان وزن الدبن حوالي 93.3 جرامًا، وكان يستخدم لقياس قيمة السلع المعدنية مثل النحاس أو الفضة أو الذهب، ثم قاموا بصك أول عملة لهم والتي سموها "نوب نفر" باسم الفرعون المصري تاخوس في عام 350 قبل الميلاد، و "نوب نفر" لدى الفراعنة هو الذهب الخالص، كانت تحتوي تلك العملة على كتابات فرعونية قديمة، كما اقتصر استخدامها على الطبقات الراقية ومنع تداولها بين عامة الشعب، ولم يتبق من عملة "النوب نفر" الفرعونية فقط غير 20 عملة في العالم، لذا فهي تعد من أغلى وأندر العملات.
أهتم أجدادنا بنحت صور لآلهتهم على العملات المعدنية، ومنها الإله خبري المرسوم على أقدم العملات المعدنية، سواء بهيئته أو بما يشير إليه، فكان يتم تصوير خبري على شكل جعران أو خنفساء الروث، فالأله خبري صوره قدماء المصريين بأنه يتدحرج على السماء، فيصل للأرض ضوء الشمس وتبلغ البشرية أسباب النماء، ولذلك كانت غالبية التمائم والأختام والمجوهرات تُصنع على شكل الجعران.
كما تم صك عملة ذهبية تحمل رمز الكبش الذي اختلف الباحثين إذ ما كان يرمز للإله آمون رع إله الشمس، أو إلى خنوم إله الخلق والحماية وله رأس كبش والتي ترمز للخصوبة والنماء، وتلك العملات اندثرت لم يتبق منها الآن إلا عدد محدود موجود في متحف بروكلين ومتحف متروبوليتان.
العملات تحكي عن حياة قدماء المصريين أفكارهم وتوجهاتهم، فنجد أن آلهتهم الأولى إيزيس وأوزوريس وجدوا على العملات، وهما مثال لكل القيم النبيلة التي عرفها أجدادنا قبل كل الدنيا كالتشافي وطريق التعافي الذي يصل لحد ما نعرفه بالصوفية، والحياة بداريها الآخرة والأولى، بالإضافة لعلم الفلك والأمور التي تتعلق بالنيل وكل ما عرّفته الإنسانية بأنه راقي وجميل.
الملكة كليوباترا كانت حاضرة وعلى العملات البرونزية تبدو تلك الأثيرة رائعة، اتقن الحفر على تلك العملات حتى وصفها المؤرخون بأنها أقرب التصورات لهيئة الملكة، هذه العملة نادرة للغاية حيث أن أحد وجهيها يحمل صورة الملكة، أما الوجه الأخر فيحمل رسم نسر يقف على صاعقة.
أما قيمة المعادن وتقديراتها فالمصريون هم السباقون بلا منافس ولا منازع وذلك قول فصل وسديد، فالذهب لليوم عند المصريين له سحر فريد، استخدم أجدادنا المعادن كالفضة والذهب وغيرها في مجوهراتهم بالإضافة للأحجار الكريمة، لذا استخدموا المعادن كالنحاس والفضة والذهب والحديد في صناعة العملات المعدنية ونحتوها بتصميمات فريدة، فكانوا يتبادلون السلع بالعملات المعدنية وليس بالمقايضة، كما عرفوا التسعير لقيمة كل سلعة بقياس وزنها بوزن العملات المعدنية، وقاموا بختم العملات المعدنية للاستدلال على قيمة كل عملة.
ومن الذهب والفضة للشلن والنكلة حكاية تحمل في طياتها اليوم نكتة، عن تلك القيمة المُتناقصة وهذا الأثر المتناقض لما تحمله ذكرى العملة، الممتدة من آلاف السنون قبل الميلاد وحتى القرنين بعد الميلاد، وما مرّت به صنوف التغيير الذي يعكس حال البلاد والعباد.
في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1836 صدر أول جنيه مصري في عصر محمد علي، الذي كان يسك الجنيه من الذهب المستورد من غينيا، لذا سُمي الجنيه بهذا الاسم تبعاً للاسم الفرنسي لغينيا ولكن بالطريقة التي كان يُنطق بها بالعربية، وطرح للتداول في الأسواق المصرية وحل محل العملة الرسمية المتداولة في ذلك الوقت وهي الذهب والفضة، الجنيه المصري يعتبر من العملات الأقدم في العالم حتى أنه يسبق جنيه الصرف الإسترليني وإن كان الجنيه الاسترليني في ذلك الوقت متعارف عليه كوحدة قياس وليس كعملة صرف، وقيمة الجنيه المصري في ذلك الوقت تساوي ما يقارب خمسين ألف جنيه بسعر اليوم.
في نهاية القرن التاسع عشر أصدر البنك الأهلي المصري الأوراق النقدية لأول مرة وصدر الجنيه الورقي وكانت قيمته تساوي 7.4 غرام من الذهب، واستخدمت تلك القيمة حتى قيام الحرب العالمية الأولى في عام 1914، حيث تم ربط الجنيه المصري بالجنيه الإسترليني وكان الجنيه الإسترليني يساوي 0.9 جنيه مصري.
وقد نتساءل عن طبيعة العملات المستخدمة بين تلك الفترتين قدماء المصريين وجنيه محمد على الذهبي، حيث أشارت الدراسات أن في عصر محمد علي باشا ضربت العملات من المعادن الثلاث الذهب والفضة والنحاس، وذلك بقيم مختلفة تراوحت بين 1 و 5 و 10 و 20 بارة، و1 و 20 قرش، وربع زر محبوب وزر محبوب، والروبية الواحدة، وما سبق ذلك كانت عملات يتم سكها بحسب الحاكم لتحمل صورته، لكن دون الاهتمام بوضع قيم ضابطة وربط تلك القيمة بالعملات الأخرى مما أدى لتدهور التجارة الخارجية، وذلك كان على رأس اهتمامات محمد علي وهو وضع مقياس ثابت للعملة المصرية.
تصميم العملات تباين على مدى سنون إصدارها باختلاف قيمتها، فمن صور الملوك حتى صور المساجد وما تحمله من فنون كل التاريخ على العملات مصون، هذا بالطبع غير التاريخ القبطي والحضارة المصرية القديمة وكل ما هو مميز في مصر البديعة، ومن الحكايات اللطيفة تلك التي حدثت في عهد الملك أحمد فؤاد، حيث كان الجنيه يحمل صورة خادمه إدريس، الذي واتته رؤية بأن الأمير أحمد سيتوج ملكاً، ولأن ذلك كان من المستحيلات بلغة المنطق فوعده الأمير في ذلك الوقت أنه إذا تحققت نبوءته سيضع صورته على الجنيه في أول إصدار لحكومته، ونفذ الملك فؤاد الأول وعده وصدر جنيه إدريس في 8 يوليو 1928.
ولأن قيمة الجنيه كانت لسنوات طويلة قيمة كبيرة، فظهرت العملات الصغيرة، التي ربما لم يعاصرها السواد الأعظم منا، لكن الدراما والسينما وأمثلة الجدات جعلتها حاضرة، فهذا لا يساوي نكلة وذلك قيمته لا تتعدى السحتوت وكليهما جمل للأهانة والتقليل من شأن الأشخاص العالة، وفي قول آخر إشارة لأنهم حثالة.
وإذا علمت يا عزيزي أن السحتوت هو جزء من 4000 جزء من الجنيه وكان يكتب عليه عبارة "ربع عشر القرش"، والاسم يعني بحسب المعجم اللغوي السَّويقُ القليلُ الدَّسَمِ، وهو قادم من سوريا وفلسطين، حيث كانوا يطلقون هذا الاسم على العملات القليلة لديهم ايضا. أما المليم فهو يساوي أربعة سحاتيت، وهو جزء من ألف جزء من الجنيه وأول مليم مصرى تم سكه فى عهد السلطان حسين كامل في عام 1917 والاسم فرنسي الهوية، وبذلك ستعلم عبقرية تنوع العملة المصرية ودلالة ذلك على أن مصر كوزموبولوتانية.
أما النكلة كانت تساوى مليمين وأصل التسمية من الكلمة الإنجليزية nickel ومعناها النيكل الإنجليزى وقيمته ربع قرش، بينما المليمان ونصف المليم يساوى 10 سحتوت وتلك عملة معدنية أخرى مستقلة عن النكلة، وينتقل السلم المصرفي للتعريفة التي تساوى خمسة مليمات، وجاءت التسمية من الكلمة الإنجليزية tariff ويقال أن سبب التسمية أن تلك كانت قيمة الأجرة الموحدة لركوب الأتوبيس لأى مكان فى مصر وفي رواية أخرى أن ذلك يعود إلى قيمة تعريفة الجمارك التى فرضها الاحتلال الإنجليزى على البضائع فى ذلك الوقت.
ومن التعريفة للصاغ ثروة، وأول من سكه هو السلطان سليم الأول ويعادل قرش واحد وهو تركي التسمية بمعني سليم، أما كل ذي حظ عظيم فهو من يمتلك النصف فرنك تلك القطعة المعدنية الفضية النفيسة اللى قيمتها قرشان لأن الفرنك الفرنسى كانت قيمته في ذلك الوقت4 قروش.
ما ظهر بعد ذلك من العملات ربما لا زال يتذكره المواليد حتى حقبة الثمانينات مثل الشلن الذي قاوم الزمن، فهو في الأصل عملة إنجليزية، ظهرت فى مصر مع الاحتلال الإنجليزى وكانت قيمة كل 5 قروش مصرية تساوى شلن إنجليزى.
وهناك أسماء لم تموت حتى وإن نُحرت قيمتها من الوجود مثل الباريزة التي تساوي عشرة قروش، وفي يومنا الحالي يشار للعشرة جنيهات بذات الاسم، وسميت بذلك حين طلب الوالى محمد سعيد باشا من المسيو براناى فى باريس عام 1862 صك عملة مصرية جديدة تحمل اسمه، ولكن مات الوالى سعيد باشا قبل وصول العملة لمصر، وتولى الحكم الخديوى إسماعيل الذى رفض استخدامها، وأعيد ضربها، فلما تداولها المصريون أطلقوا عليها الباريزة، نسبة إلى باريس التي ضربت بها العملة.
أما الريال فهو كلمة إسبانية وتعنى "ملكى" وأطلق المصريون الاسم على القطعة الفضية التي تساوي 20 قرشاً لأن ذلك كانت قيمة الريال الأسباني في ذلك الوقت، ويكفي أن تستمع لأغنية الطفلة المعجزة فيروز معانا ريال لتعرف القيمة الشرائية لهذا الجبار.
طباعة وصك العملة دخلت مصر لأول مرة في عام 1968 عن طريق البنك المركزي، والذي كان يقوم أيضا بطباعة بعض العملات العربية لصالح بنوكها المركزية، ومن الاصدارات المميزة لمصلحة الخزانة العامة وسك العملة كان إصدار الربع جنيه المخروم في عام 1993 والذي كان ثروة في ذلك الوقت وله قدرة شرائية هائلة شهدها ابناء جيلنا، فكان يمكنك بذلك الغلبان أن تحصل على إحدى النعم الآتية من زجاجة مياه غازية أو بسكويت بيمبو الدائرية أو كيس من مقرمشات البطاطس المقلية، أو قطعتين من اللوليتا التي لا يعرفها أبناء تلك الأيام الضبابية.
ومن الربع جنيه للنصف جنيه، للجنيه بذاته كعملة معدنية ويحمل وجه العملة صورة قناع توت عنخ آمون، ومؤخرًا تعددت صور الجنيه ليحمل آخر الإنجازات في الدولة المصرية الحديثة كالعاصمة الإدارية وقناة السويس الجديدة.
وآخر الإصدارات البنكية هي عملة 200 جنيه عديمة البركة النكدية، التي صدرت في عام 2003، ولا ندري ربما بعد قرن من الزمان أو عِقد من تلك الأيام قد تصبح تلك العملة نكرة، وحملها من باب الحنين والذكرى، وتلك آفة الأيام أن تبتلع كنوز الأرض من الحجر والبشر، وإذا جادت وأكرمت فليس لديها إلا ذكرى لأصحاب الذاكرة، وربما عن قريب ستختفي العملات بالأساس وهذا ظن لا يعقبه أثم، فالعملات الإلكترونية مثل البيتكوين وغيرها من العملات الافتراضية أصبحت موجودة بقوة دفعت البعض للمسارات الاقتراضية لشرائها والاستثمار فيها، لذا ما في الغيب في الغيب ولكن من العيب ألا نحاول استشرافه، والتدبر من دلالات اشرافه والتعلم مما سبق أن نحتفظ بعملة على سبيل الذكرى من كل فئة نقدية قبل أن يبتلعنا الغد والتكنولوجيا ويصبح كلانا أشباح ماضية، وحتى الكروت الإلكترونية يبدو أنها في يوم ليس ببعيد ستصبح فانية.