قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

صدى البلد

منال الشرقاوي تكتب : كسر الجدار الرابع

×


في عالم الفنون الأدائية يكمن سر عميق يتحدى قوانين الواقعية ويفتح الباب على مصراعيه لعالم الخيال، إنه "الجدار الرابع"، ذلك الحاجز الخفي الذي يفصل العرض عن الجمهور ويشكل نقطة تلاق بين الخيال والواقع. في السينما، نجد أن كسر هذا الجدار يفتح أبواباً لا تُحصى من الإبداع، فهو أداة جمالية ونقدية من الطراز الرفيع، تُمكّن المخرجين والكتّاب من توسيع أفق السرد ونقل رسائل متعددة الأبعاد. إن كسر الجدار الرابع ليس مجرد حيلة فنية، بل هو وسيلة لتفكيك الحواجز الوهمية، وإشراك المشاهد في تجربة فريدة تتجاوز حدود الخيال إلى واقع يتجسد أمامه بكل تفاصيله وإيحاءاته.


يعود أصل إستخدام مصطلح الجدار الرابع إلى المسرح التقليدي في القرن الثامن عشر، حيث افترض أن هناك ثلاثة جدران حقيقية (الخلفية والجانبية) وجدار رابع وهمي يفصل الممثلين عن الجمهور. تاريخيًا، استُخدم المصطلح -لأول مرة- من قبل الناقد الفرنسي "دينيس ديدرو" في سياق توجيهاته حول الأداء المسرحي تحت مسمى "الجدار الخيالي"..
بعد ذلك ومع ظهور السينما تبنت هذا المفهوم وأعادت صياغته بطرق مبتكرة، فيشير كسر الجدار الرابع في السينما إلى اللحظات التي يعترف فيها الفيلم بوجود الجمهور بشكل مباشر، عبر تحدث الشخصيات إلى الكاميرا أو التعليق على الأحداث بشكل يعترف بـ "وهم السينما"، فتُعد هذه التقنية وسيلة قوية لتفكيك السرد التقليدي وجعل الجمهور يشارك في تجربة الفيلم بطرق جديدة.


وودي آلن Woody Allen يستخدم كسر الجدار الرابع بكثرة في أفلامه، ولا سيما في فيلم (Annie Hall) والذي تم إنتاجه في 1977، حيث تتحدث الشخصية الرئيسية، "ألفي سينجر"، مباشرة إلى الكاميرا، مما يسمح له بمشاركة أفكاره ومشاعره بشكل مباشر مع الجمهور. يُستخدم هذا الأسلوب لتعميق التفاعل الشخصي بين الشخصية والجمهور، مما يعزز الشعور بالحميمية.


مثال آخر من فيلم "نادي القتال" (Fight Club) 1999، حيث يقوم الراوي (إدوارد نورتون) بكسر الجدار الرابع عدة مرات، مما يخلق طبقة إضافية من التعقيد في السرد، فجاء هذا الأسلوب في الفيلم لنقل الأفكار الفلسفية والنقدية المتعلقة بالمجتمع الاستهلاكي والهوية الشخصية.


أما في فيلم الذئب من وول ستريت (The Wolf of Wall Street) – 2013، نجد أن "مارتن سكورسيزي" يستخدم كسر الجدار الرابع بذكاء، حيث يتحدث "جوردان بيلفورت"، الشخصية التي يقدمها (ليوناردو دي كابريو) مباشرة إلى الجمهور، مما يعزز من فاعلية السرد ويوفر نظرة داخلية على عقل الشخصية وعملياتها الاحتيالية.


إن كسر الجدار الرابع في السينما يحمل دلالات نقدية عميقة؛ حيث يستخدم المخرجون هذه التقنية لكشف الحيل السينمائية والتشكيك في واقعية الفيلم، مما يُفقد الجمهور إحساسه بالوهم ويدفعهم للتفكير نقديًا حول ما يُقدم لهم. كما يسهم كسر الجدار الرابع في تعزيز التفاعل بين الجمهور والشخصيات، مما يقوي الروابط العاطفية ويزيد من تأثير العمل الفني. بالإضافة إلى ذلك، يُتيح هذا الأسلوب للأفلام نقل الأفكار الفلسفية والنقدية بشكل مباشر، معززًا بذلك من قوة وتأثير الرسالة المراد إيصالها، مما يجعل الجمهور أكثر وعيًا وتقبلاً للموضوعات العميقة والمعقدة.


والسؤال هنا، هل لكسر الجدار الرابع أثر نفسي على الجمهور المتلقي ؟
نعم، إن كسر الجدار الرابع يترك أثرًا نفسيًا عميقًا في نفوس المتلقين، حيث يدعوهم هذا الأسلوب إلى مزيد من المشاركة في تتبع خيوط السرد ويحثهم على اعتماد نظرة نقدية تجاه مجريات الأحداث والشخصيات. لا شك أن هذه التقنية تنمي الوعي بأدوات الفن السينمائي وتأثيراته، فهي تُساعدهم على استكشاف معان جديدة في الرسالة والمغزى، وتُعمق من تفاعلهم مع العمل الفني، مما يسهم في تطوير التفكير النقدي حول الوسائط البصرية.


النقطة الأهم هنا هي، النجاح في تقبل الجمهور لهذه التقنية، فهذا يعتمد على سمات الممثل مثل الكاريزما، التي تمكنه من جذب الجمهور وإلهامهم بحضوره الشخصي وسحره، والروح الفكاهية التي تسمح بإدخال الفكاهة بطريقة طبيعية وسلسة. كذلك الصدق في الأداء يُعزز من تقبل الجمهور للمحتوى المقدم، بينما التواصل البصري يعزز من إحساس المشاهدين بالاندماج في الحدث. خير مثال على هذا الكلام من مسلسل "البحث عن علا"، حيث قامت هند صبري، أثناء أدائها لشخصية علا، بكسر الجدار الرابع بطريقة تعكس مهارتها والحضور الفريد الذي تتمتع به. هذه التقنية مكنتها من التواصل المباشر مع الجمهور، مما عزز من الارتباط العاطفي وأعطى الشخصية بعدًا أعمق.

كاريزما هند صبري أسهمت بشكل كبير في نجاح هذه اللحظات، حيث استطاعت بحضورها القوي وأدائها الطبيعي أن تجذب الجمهور وتجعلهم يشعرون بصدق وشفافية تجربتها. اختيار التوقيت المثالي، يزيد من تأثير الرسالة أو المشهد، والتفاعل مع السياق المحيط يضمن انسجام كسر الجدار الرابع مع السرد الكلي. كل هذا يجعل كسر الجدار الرابع أداة فعّالة لتوصيل الرسائل النقدية أو الفلسفية.


كسر الجدار الرابع ذلك التحول الجوهري في عالم الفنون، أتاح للمبدعين تجاوز الحدود التقليدية وإشراك المتلقين في حوار مفتوح ومباشر، هذه التقنية ليست مجرد أسلوب فني، بل هي بوابة لفهم أعمق للعلاقة بين العمل الفني والمتلقي، مما يؤدي إلى تجربة معرفية غنية ومحفزة للتفكير. من خلال تحطيم هذا الجدار الافتراضي، ندعى لاستكشاف عوالم جديدة والتفاعل مع الأفكار بطرق تتجاوز الإطار التقليدي للفن، ففي كل مرة يكسر فيها الجدار الرابع، يولد سؤالا جديدا، يحثنا على التفكير ويلهمنا النظر إلى ما وراء الظاهر. وربما، في نهاية المطاف، لا يذكرنا هذا الفعل الجريء بأن الفن مرآة الحياة، بل بأننا نحن، بحد ذاتنا، جزء لا يتجزأ من تلك المرآة التي تعكس الحقيقة والخيال -على حد سواء.