يعد قرار المكوث ليوم كامل داخل مكتبة كبيرة مزدهرة، تحتضن ما يتجاوز أربعة ملايين كتاب في نظام مرتب ودقيق، يعتبر أحد الأفكار الخلاقة، التي قد تبعث في نفس الإنسان الكثير من الإلهام والسعادة، بل ربما يستطيع من خلاله الانفصالَ عن الواقع المحسوس من خلال العيش في عالم افتراضي آخر يختلف تماماً عن الفضاء السيبراني الإلكتروني الذي نتقلب فيه ويتقلب فينا ليلَ نهار.
وعند الحديث عن المؤلفات التي أنتجها الإنسان منذ قُدر له أن يبدأ بذلك، تحضرني فكرة ربما تبدو طريفة، وهي أنك عندما تبدأ بتقليب صفحات كتاب ما في أي مجال من المجالات فإنك تبدأ برحلة من نوع مختلف وفريد للغاية، حيث تصول وتجول بداخل عقلٍ إنساني آخر، وتقرأ وتنتقل بكل سلاسة بين حقول من الفكر الذي كلف المؤلف وقتاً وجهداً كبيرين حتى استطاع أن يفرزه على شكل ثمرة معرفية يانعة من غصن الخبرة الخاصة به.. فكم هي مهمة القدرة على استثمار الإنتاج الفكري والمعرفي البشري الممتد عبر التاريخ من خلال تطويع الأدوات والابتكارات بحيث تكون أداةً فعالةً تساعد في ذلك، وفي الحيلولة دون هدر «الكنوز الإنسانية» الموروثة.
وفي سياق ليس ببعيد، فهذا الحديث يتلاقى مع ما يمكننا تسميته «الإنسانية النشطة» أو الفعالة، الماثلة في دائرة المجتمع المحيط بنا، والتي يمكن الإشارة لها من خلال المجتمع المدرسي على سبيل المثال لا الحصر، أو بيئة العمل.. فكلها تحمل أنماطاً من المعارف الضمنية الخاصة بكل إنسان، وكل خبرة فيها منفصلة عن الأخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف تمكن الاستفادة من المعرفة الضمنية المخبأة وغير المتاحة بيسر؟ هنا يكمن دور الإدارة المعرفية المتقنة، بحيث تكون قادرة على استثمار المعارف غير السطحية وغير المتاحة. وإذا ركزنا على بيئة العمل، كمثال تطبيقي حيوي، نجد أن في كل بيئة عمل هناك شخصيات وعقليات وتخصصات مختلفة تزيد من الحاجة إلى فهم ذلك وإدراك مدى المسؤولية المترتبة على الإنسان من أجل استثمار جميع موارد المعرفة الضمنية وعدم إهدارها.. حيث إن التأمل في طبيعة المعرفة الضمنية يجعلني أقول بوجود «شجرة معرفية ضمنية» داخل عقل كل إنسان، بعضها يمكن اعتباره مثمراً وبعضها الآخر يمكن اعتباره شحيحاً يحتاج المزيد من الجهد لتعزيز المعرفة الكامنة فيه وإخراجها بكفاءة ومهارة إلى حيز الخبرة الإنسانية. وبشكل أوضح فإن الموظف صاحب القدرة أو المعرفة والمؤهل الضعيف، يبقى بداخل حيز من الخوف والتردد في نقل وتبادل أي معارف مفيدة بينه وبين فريق العمل.
وهذه الأنانية تمثل تعبيراً عن ضعف الكفاءة التي تحتاج إلى مضاعفة الجهد حتى نستطيع الارتقاء بها بحيث تحول السلوك الإنساني نحو الأفضل فيما يتعلق بتبادل المعارف. وفي ذات الوقت فهناك شجرة معرفية مثمرة يمثلها بعض الموظفين أو القيادات الإدارية التي تعبر عن المعرفة القوية المتمكنة. ولا يمكن إثبات ذلك إلا من خلال النظر في السلوك الإداري الذي يستطيع إنتاج قيادات جديدة، حيث إن وجود قائد ممتاز في بيئة العمل، يعني بالضرورة ارتفاع معدل الابتكار والتطور الفكري، وإنتاج سلوك وظيفي أكثر رقياً وكفاءة، وفي ذلك تشابه كبير مع مهارة التفويض الإداري التي تنم عن مهارة المديرين النافذين في تقسيم الأعمال وتفويض المهام وعدم تركزها في مكان واحد، أو الاعتماد على موظف واحد للقيام بجميع المهام المطلوبة.
إن البحث عن الطرق والوسائل الممكنة لاستثمار جميع معطيات المعرفة الضمنية، يمثل استجابةً مكتملة النصاب لمسؤولية الإنسان وما يترتب على مهمته الاستخلافية في إعمار الأرض، حيث أن الله سبحانه وتعالى وضع لكل مخلوق وهيَّأ له ما يسهِّل عليه حياتَه ويجعله قادراً على الاستمرار.
ففي حين أن للفيل خرطوماً طويلاً، فإن الزرافة لا تحتاج له وتعتمد على رقبتها الطويلة، وكذلك حال الإنسان فهو مميز عن سائر المخلوقات بالعقل الذي يمكن تعريفه في هذا السياق، ومن هنا فهو محور الاستراتيجية التي تساعد في الحفاظ على النوع البشري واستمراريته. ولهذا أيضاً فإن نشاط الإنسان وحركته وتطوره وازدهاره ورقيه وتخطيطه.. ينطلق من الاعتبارات التي تحترم قدراته واستعداداته الفطرية الموهوبة من الله تعالى، والتي هي في أحد أشكالها القدرةُ على إحداث التوازن بين تنظيم المعرفة الواضحة واستثمار المعرفة الضمنية بأساليب ابتكارية نوعية.