«امسحى دموعك يا سناء» هو عنوان لمقال فريد من نوعه اختارته الكاتبة الكبيرة سناء البيسي صاحبة ومؤسسة فكرة إصدار نصف الدنيا لتتحدث من خلالها عن تجربتها الغنية بالإبداع والشخوص والتاريخ والقيمة، وترصد الواقع الحالي لـ مأساة نصف الدنيا .. حيث عبرت خلاله عن موقفها من تغيير اسم المجلة ليتحول إلى «عربى على انجليزى» وخلال المقال رصدت الكاتبة الكبيرة المحطة الصحفية الأخيرة التى توقف قطار العمر عندها على بلاط صاحبة الجلالة، قائلة : " أرويها بروية وشجن وحزن رفيف وقلب ضعيف لمن جاءتنى تطلب منى خلاصة التجربة الصحفية الطويلة.. تسألنى هل كانت التجربة جميلة أم مريرة أم البين بين؟!.
ونرصد عبر صدى البلد نص المقال الذي نشر بجريدة الأهرام :
«امسحى دموعك يا سناء» جملة أرسلها لى أحد أبنائى الصحفيين بالأهرام فى رسالة إلكترونية تعقيبًا على وضع اسم «الدنيا» بالانجليزية على واجهة مجلة «نصف الدنيا» التى كانت ترأسها وقتها الأستاذة الغالية مروة الطوبجى وذلك لإثارة حفيظتى تجاه من اعتدى على اسم بذلت جهدًا جبارًا على مدى عقود طويلة لحفره على جدران الصحافة.. وأبدًا لم تسقط دموعى رغم قسوة البتر والإحلال» آخذة رسالة الابن على سبيل الدعابة» بيقين أن لكل شيخ طريقته، ولكل ولىّ كرامته ولكل إمام منبره» ولكل نائب دائرته» ولكل موقع إطلالته، ولكل رئيس تحرير ما نوى تجاه مطبوعته وإصداره وجريدته ومجلته تبعًا لرؤيته وهدفه وتبعيته وموازينه وميزانيته ونوعية قرائه، وإن كانت الست الوالدة فى أى منها لم تورثه إياها بدليل «ميلاده» العفوى الذى يبزغ فجأة وبلا مقدمات وخروجه على حين غرّة أيضًا – وسط الأكل أو فى عز النوم أو فى صالة أفراح أو تحت الدش أو فى إشارة مرور – لا يتسع له صدر قرار الخروج للملمة أوراقه وغلق اتصالاته ووداع مساعيه وطىّ أحلامه وإطفاء قناديله وتنبيه قرائه ورسم قناع الكرامة والصمود!
وفيما إذا كنت لم أحمل ضغينة تجاه خلطة اسم المجلة «عربى على انجليزى» فقد كان المبرر – لنفسى أولا وحتى لا تزعل نفسى – مشاهدة الحروف اللاتينية تسود وترعى وتتجذر فى جميع المجالات والساحات والميادين واللافتات والعناوين والأعالى الناطحة والحافلات المارقة والكافيهات الغاصّة وقوائم الطعام المبهمة والمولات الصاخبة والسوبرماركتات الباهظة وأتحدى وجود لافتة واحدة بالعربية – على سبيل المثال – بطول مناطق التجمع الأول والثانى والثالث والرابع والخامس وشارع التسعين.. الخ، وصولا للعاصمة الجديدة، فالكل إذن ماشى فى الركاب المتعال على حروف العربية «أ ب ت ث ج حٌ» التى هبطت منزلتها للدرجة الثالثة ليغدو المطلوب فى شهادات الخبرة وروشتات الأطباء ومعامل التحاليل ومواقف السيارات وخدمات البنوك ومواعيد القيام وصالات المطارات وكشف الهيئة والسين والجيم وأوراق التعيين والتقديم أن تكون بالانجليزية ليتم إجازتها كأمر بدهى فى عوالم الصناعة والتجارة والثقافة والوزارة حتى ولو كانت أون لاين!!!.. وكفاية إن رئيسة التحرير تكرمت مشكورة بأن تركت لنا فى فترة رئاستها الناجحة نصف العنوان بالعربية تفضلا وسخاء بمنطق التعامل – كما فى الأمور على مستويين – للطبقة المتوسطة والشعبية من القراء بلغة الضاد ليظل هناك ال»نصف»، وللطبقة العليوى تصبح ال»Donia» بالانجليزية!!
ذاك أمر ما لم تُسكب عليه من عينى الأدمع، لكنها الشحيحة المترفعة النادرة التى تحبسها المآقى المدربة على ابتلاعها فى أصعب المواقف حطمت السدود فلم أستطع مسحها يا ابنى عندما ابتُلعت «نصف الدنيا» كلها على بعضها فى باطن الحوت، وليتها عاشت وترعرعت بيننا ولو بعنوان كامل الانجليزية وعلى رأى المثل «مارضيناش بنصف الأسى جالنا الأسى كله كامل العدد!!
تلك إحدى المحطات الصحفية الأخيرة التى توقف قطار العمر عندها على بلاط صاحبة الجلالة، لأرويها بروية وشجن وحزن رفيف وقلب ضعيف لمن جاءتنى تطلب منى خلاصة التجربة الصحفية الطويلة.. تسألنى هل كانت التجربة جميلة أم مريرة أم البين بين؟! فأجبتها بأنها كانت مثل طقس تمر به جميع فصول السنة خلال يوم واحد.. صيف على شتاء، على حر موت وفرهدة على زمهرير تكتكة، على رذاذ مطر يربت على الرأس والكتفين ويلثم الخدين، على ندى فجر يلمع لآلئا فوق غصون الورد، على سطور عرق، على قشعريرة مسام من هول الحدث، على جبهة منداة، على عطس وزكام والسبع دوخات، على خنقة حرائق وتطاير القش، على زجاج مغبش من الفريزر وطبقة الأنفاس، على كومة سكر بلا وراثة، على نبض نازل وضغط شغال ارتفاعا، على ذبحة صدرية وعضلة مرتخية ودسك فى القطنية ودعامة للتاجى والأورطى والسمبتاوى، على انسداد أوردة ودوالى وقسطرة ولزقة بذر كتان، على صوف على حرير، على نوة المكنسة وأمشير، على فيضان مكانك سر فى الحبشة، على راية حمراء فوق الشط، على ضربة شمس، على مايوه بكينى ومايوه بوركينى، على الساحل الشرير والساحل الطيب، على بالطو فراء باهظ مركون على فوتيى لوى كاتر، على قطن المحلة والكستور ورمش العين والباتستا وتيل نادية، على صنع فى مصر، على برندات عالمية، على أرمانى وفيندى وبوما ونايكى وأديدس وبولفارى وكالفن كلاين، على أعالى البحار، على شاطى الفردوس، على دلسوار زحلقة ع الموج، على بيات شتوى، على غيوم سماوات، على سحابة صيف، على ثلوج كاليمانجارو وصحراء التيه، على موجة تجرى وراء الموجة، على الميناء، على كوبرى عائم خرج فى غزة عن العمل، على منارة مهجورة، على لون برونزى فى شمس الظهيرة، على جزيرة عذراء وأخرى عليها لغط، على قرش تائه فى بحور الشعر، على الناى اللى غنى للنيل ساعة الأصيل، على يخت يرسو على الأرخبيل، على شِباك صيد راجعة مهزومة، على عروس النيل خلعت عليك حياءها وحياتها وأتتك شيقة هواها شيق، على زبد البحر وفيروز الشطآن، على قواقع وأصداف ومحار وجندوفلى، على طاجن أرز بالجمبرى، على فتى غصن الإهاب يمشى الهوينى على ضفاف النيل، على سمك وقار وتونة ورنجة وسبيط وفسيخ، على قصور الرمال، على شط اسكندرية، على بلاجات جمصة ومارينا والمندرة ورأس الحكمة والعلمين، على بحر يُعلن عن مفاتنه سلفستر ستالونى، على حرارة فوق الأربعين، ورياح مثيرة للرمال وتعذر الرؤية!!
وعلى مسار التجربة الصحفية ما أن أهم بالنداء على سمسم حتى تنفتح المغارة الصحفية وحدها وكأنها على موعد مسبق لتتسارع على شاشة الذكرى الأحداث والمواقف والتداعيات فى بلاط صاحبة الجلالة التى تعانى منذ مدة وعكة شديدة آمالت التاج من شدة رياح خماسين!! فى المستهل يحضرنى ذكرى مقالى الوحيد الذى تم تشفيره وحجبه عن النشر، وكان يدور حول الرئيس الأمريكى الرابع والأربعين باراك حسين أوباما المولود من الأم الأمريكية آنادوهام والأب حسين من كينيا، الفائز من الحزب الديمقراطى عام 2009 على منافسه الجمهورى السيناتور جون ماكين بفارق كبير فى الأصوات، وكان عنوان مقالى «الرجل الأسود فى البيت الأبيض» قاصدة سواد قلبه، حيث قمت بقراءة متأنية لمذكراته الشخصية «الأرض الموعودة» وفيها قوله عن مصر بأنها الدولة الأهم فى عملية السلام فى الشرق الأوسط وبأنها تُمثل قلب العالم العربى والإسلامى.. أوباما الذى قام بزيارة خاطفة لمصر فى عام 2009 استغرقت تسع ساعات ذهب فيها لجامع السلطان حسن ترافقه هيلارى كلينتون، ليتجه بعدها إلى جامعة القاهرة لإلقاء خطابه للعالم الإسلامى، حيث وجهت الدعوة لقيادات الإخوان الذين كان يدعمهم بشدة حتى قيل عن تسرب وثيقة سرية أبرم فيها اتفاقا مع مرسى لتسليم 40% من سيناء مقابل 8 مليارات دولار تسلمها خيرت الشاطر النائب الأول للجماعة.. وأبدًا لم تشهد العلاقات الأمريكية – المصرية فتورًا فى تاريخها مثلما كان فى عهد أوباما، حيث ازدادت مع الأيام خشونة إلى حد تجميد المساعدات الأمريكية.. وكانت حجة رئيس التحرير فى حجب المقال بأن عنوانه سيجر المشاكل على جريدة الأهرام التى سيوجه إليها الاتهام بالعنصرية.. وبقى تساؤلى معلقا للآن: لماذا لم يطلب منى ذلك المسئول تغيير العنوان وهذا من حقه رئيسا للتحرير بدلا من الحجب التام الذى أدى إلى جانب غيره من تصرفات الود المفقود والتعدى على السطور وتحويل الشربات لفسيخ، إلى وضع قلمى جانبًا فى استراحة محارب وغلق جميع المواضيع ونوافذ الريح لأستريح إلى أجل غير مسمى!
وجاء المسمى بعدما غادر صاحبنا موضعه وأتانا بالأهرام غيره.. الأهرام التى أحبها وألتزم بها، وهذا الالتزام فتحت عينى عليه فى بيتنا طفلة عندما كان والدى يقرأ الصفحات ذات البنط الكبير ساعات النهار وآناء الليل ويمتحننى فى قراءة العناوين ويصحح لى الإعراب ويستعيدنى للتوقف فى صفحة الوفيات عند أسماء كل من اختارهم الله إلى جواره بالأمس وعائلاتهم وأنسابهم فردا فردا، وكان حلمى الذى أبات وأصبح عليه أن أجد لى يوما صورة للوحة من رسمى باسمى منشورة فى الصفحة الأخيرة عند كمال الملاخ مكتشف مراكب الشمس الذى يكتب كثيرا وقتها عن لبنى عبدالعزيز وسيسيل دى ميل وكارتر مكتشف مقبرة توت عنخ آمون والأخوين الرسامين «آدهم وسيف وانلى».
وفى هذا المقام أتذكر عندما أرفقت مقال السبت بلقطة لمرسى يضع فيها على واجهة البذلة غير مصدقا نفسه جميع نياشين منصبه كرئيس للجمهورية، وتوقعت فى سرى أمرا تحقق عندما حادثنى رئيس التحرير وقتها للاعتذار عن نشر المقال لضخامة مساحات الإعلانات لهذا الأسبوع، ولكونه قد استشعر بادرة يأس من لهجة خضوعى للقرار وعدنى بالنشر فى الأسبوع القادم.. وكان «قدها» وتم النشر.. ومازلت ممتنة للكاتب الصحفى القدير أسامة سرايا وهو يشغل منصب رئيس التحرير الأهرام عندما لم يتركنى لساعة واحدة أفقد فيها بوصلتى إثر قرار الإطاحة بى من «نصف الدنيا» وأنا فى وسط البناء ومتعلقة على السقالة، فقد وجدته فى التو أمامى فى بيتى يرافقه الزميل الصديق خيرى رمضان ليعرض علىّ الكتابة صباح الغد فى جريدة الأهرام بأى مساحة أختارها، ومن يومها للآن ظل السبت نافذة أسبوعية.. لكن ساعدى مع السنين والأيام لم يعد يساعدنى للخروج المنتظم للشمس للنور للدنيا لمتابعتى الصفحة مع رموز الوفاء والجدعنة الدكتور محمد منصور هيبة أستاذ الصحافة بكلية الإعلام والمستشارالإعلامى والمتحدث الرسمى باسم جامعة القاهرة ومستشار رئيس التحرير بالأهرام ومهندسى الإخراج الفنى شريف حسن ومجدى بكرى وناصر بيومى صفحة لابد لها من إرهاصات وقراءات ومراجع وهوامش وتلخيص وشطب وإسهاب وإعادة حوكمة وتهذيب وإصلاح وود وحب وعزلة وسهر وقهوة وبانادول وحزام طبى ومسند للظهر والقدمين.
أحمد بهاء الدين - على حمدى الجمال
فى المطحنة اليومية، والفرم ما بين التروس، واللى نبات فيه نصبح فيه، والوحش النهم يبتلع كل ما نلقمه من أخبار وتحقيقات وصور وقصص ولا يشبع بل هل من مزيد خاصة فى مجال التفرد والسبق.. وسط أجواء اللهاث تلك التى لابد وأن تحمل فى طياتها نوعا من التلاقى والتعاطف وروح الفريق تجد هناك من لا يبغى لك خيرًا لتكتوى بنار المكيدة التى عانيت منها طويلا لأمكث بسببها فى مربع الظل لمدة سبع سنوات عجاف لا أحد يطلب منى سطرًا، فكنت أدور على أصحاب الصفحات محاولة تسويق منتجى عبثًا فانكفأت أأروش على حالى أكتب قصصا قصيرة وأرسم اللوحات، وكمثال لما تعرضت له من أتراح عندما كتب لى الأستاذ إحسان عبدالقدوس فى فترة رئاسته لمجلس إدارة الأهرام رسالة مفتوحة للنشر على صفحات الجريدة بعنوان «عزيزتى سناء» يُلقى فيها أضواء كاشفة على انعكاس فترة حكم ناصر على النسيج الاجتماعى المصرى، وكيفية التزام الجميع بالمظهر الاشتراكى الخشن، وبعدم استعراض الأثرياء لمظاهر ترفهم تخوفا من شبح التأميم، حتى نساء الطبقة الراقية أخفين مجوهراتهن الباهظة وفرائهن الثمين، وما أن رحل النظام الناصرى وأتى الانفتاح حتى طلعت المرسيديسيات من أوكارها والخواتم السولتير من خزائنها، وسافرت زوزو هانم للاستشفاء فى الكوت دازور وأتى خوليو ليغنى للبنات، واختفت من الأفواه أصداء أغنية صورة صورة صورة.. حملت مقال الأستاذ إحسان لأهرع به لمدير التحرير الأستاذ صلاح هلال مع مواد صفحة الغد التى أُشرف عليها، فرفع عينيه ليتأملنا طويلا – أنا والمقال – بإمعان وفى صمت تام فعدت إلى بيتى فى انتظار «عزيزتى سناء» مع صباح النشر، وفوجئت باختفائها بعدما أطاح السيد صلاح بالرأس، ولما كان قد بلغ معى مداه من اضطهاد ذهبت إلى رئيس التحرير الأستاذ على الجمال - الذى كان يمثل معسكرا من الأهراميين ضد عبدالقدوس وحده – ألتمس عونًا ففوجئت بالرجل الدمث البارع فى العزف على العود كتلة مستنفرة واجهتها الغضب يستدير بكامل مقعده اللولبى ليعطينى ظهره صارخا فى اتجاه سماء النافذة.. أنا.. إنت.. تطعنينى فى ظهرى.. أنا تدخلى له فى غيابى ويقول لك كمان يا عزيزتى!!! ولما لم تتعد ثلاثتنا أنا وإحسان وهلال فقد أدركت أن الهلال قد صارت منجلا فذهبت أكتب استقالتى أبلغ وأقوى وأجدر وأروع وأشمل وأجمل وأمجد وأفضل كلمات يكتبها المرء لحظة انتفاضة كرامته، وردًا مفحِمًا على إهانته، وتلخيصا وافيا لخضم مشاعره، وانعكاسا جليا لرفضه الأمر بأكمله، وقارب انقاذ لانزهاق روحه، وطوق نجاة للبر التانى ضاربا عرض الحائط بكل شىء فلا شىء يساوى أى شىء.. لحظة فيها الأنا أنشودة الوجود.. أنا ماشية وسايبة لكم الجمل بما حمل.. أنا استكفيت بعدما حطيت أصبعى فى الشق.. أنا احتملت فوق ما يحتمل البشر، وإن كنتم فاكرين إنها شكة الدبوس فقد ذبحتنى كما سيف المنون.. وعلى فكرة أنا كتبت استقالتى خمس مرات فى عين العدو!
وحتى الحوار الطويل المشوق الذى أجريته مع الأستاذ إبراهيم نافع لأطلعه عليه مكتملا قبل النشر على مدى أسابيع والذى طار من فرط السعادة بعد قراءته، لكنه فجأة التقانى صدفة بتجهم شديد كان لى الحق فى الاستفسار عنه وأنا التى بذلت ما فى وسعى لإخراجه فى الإطار الصحيح، فأجابنى بما أذهلنى من أننى سلطت عليه بريقا قد جلب له الحسد ومن ثم النحس، وهكذا يا سادتى عرفوا طريقا غاية فى الابتكار للرجل ليقلبوه ضدى بالشكل الجديد المبتكر.. حسدونى.. غلطانة يا سيدى وياريتنى ما جنيت.. أنا التى عانيت طويلا فى سماع إجاباته على الأسئلة لطبيعة نبرات صوته المنخفض لمعدل الهمس، بحيث يصل إلى جهاز التسجيل مجرد همهمات، ولما لمست صديقتى الغالية المطربة نجاة حيرتى البالغة فى هذا الشأن أقرضتنى ميكروفونها الخاص المستشعر لدبة النملة ليشبكه الأستاذ فى عروة قميصه فيدوى صوته فى التسجيل مجلجلا لتتفتح الآفاق، ولما اشتعلت نيران الغيرة ضدى بين دوائر المقربين أتاح نافع للزميل ابراهيم حجازى الفرصة ليجرى – مثلى تماما – حوارا آخر معه لمجلة الأهرام الرياضى خرج للأسف باهتا، ومكث الزميل عبدالوهاب مطاوع رئيس تحرير الشباب داخل طالع علينا فى جلسة الحوار يٌلقى بالعبارات المحبطة متعجلا الأستاذ بأى حجة لوضع الخاتمة، وكنت فى سرى أقول لهم ما هو كان طول العمر عندكم ودلوقت حلى!! ومازلت أذكر لوم مدير مكتبه لعدم قدومى لرؤية الأستاذ كثيرا كما هو المفترض، فأجبته بأن الحضور عند اللزوم، فهمس بأن لابد وأن لك منزلة كبيرة عند الأستاذ مع كل تلك الادعاءات ضدك من غالبية الداخلين والخارجين!
أسامة سرايا - محمد زايد
وقد تقسو المكائد إلى حد قد يصيبك فى عالمنا بالفالج – أى ولامؤاخذة الشلل – ومثال لذلك عندما كنت قاعدة فى يوم خميس داخل حجرة المكتب التى تضمنا أنا والفنان يوسف فرنسيس والأستاذ محمد زايد بالدور السادس بالأهرام، وعندما اقترب موعد العودة للمنزل فى الثالثة وبدأت بجمع أشيائى المبعثرة دوى رنين التليفون بجوارى ليخبرنى محدثى بعد التأكد من اسمى ولقبى بأننى مطلوبة فى مكتب المدعى الاشتراكى فى الساعة العاشرة من صباح السبت - أى بعد النهاردة وبكرة - ووضعت السماعة، ومن المؤكد أن شيئا ما قد رسمته ملامحى قد استرعى انتباه زايد فسألنى عن أمر المحادثة الأخيرة التى أجريتها فى التليفون فأخبرته بالرسالة المقلقة فزوار المدعى وقتها كان عليهم علامات استفهام كثيرة، فما كان من زايد وهو الواسع الاتصالات إلا الاتصال بمكتب المدعى على الفور ليُجيبه السكرتير بأنه قد غادر مكتبه فى التو، وربما يكون فى طريقه قد مر بمكتب فلان الفلانى، فلاحقه زايد من مكتب لمكتب ومن سماعة لأخرى حتى وصل إليه ليستفهم منه عن أمرى، فأجابه ضاحكا بأننا نحن معسكر الصحفيين غاويين مقالب فى بعض.. ودعيت على خبيث الطوية الذى أحكم خيوط المؤامرة ليجعلنى أعيش على ألسنة القلق لا تذق عيناى نومًا ليلة الخميس والجمعة حتى السبت!! ومرة أخرى قال لى تليفون مكتبى فى جملة قصيرة «إلحقى اللى فى مصر الجديدة» ولأن والدى كان صاحب مرض ويعيش وحيدا فى شقته بمصر الجديدة وقعت من طولى لتنقذنى الزميلة أهداف البندارى بسيارة من جراج الأهرام، ليفتح لى الوالد الباب بذات نفسه، فتركته لأهرع لبيت أختى فى مصر الجديدة فقالوا لنا إنها عند بنت خالى فى مصر الجديدة، فصعدت سلمها الخمس طوابق بدون أسانسير لتفتح لى متعجبّة لأرمق شقيقتى بكامل رونقها فى الصالون ولم يكن هناك آخر يهمنى فى مصر الجديدة.. ومنهم لله!!
وفى سنين الصحافة والتجربة طرقت باب القاضى العادل الأستاذ أحمد بهاء الدين المواجه لباب مكتبى أطلب منه تعضيدًا لموقفى فى ترشيح نفسى لمجلس نقابة الصحفيين، وكانت الزميلة أمينة شفيق هى المنافسة الوحيدة أمامى، فما كان من أستاذ بهاء إلا أن سلخنى على نار هادئة شارحًا لى دور أمينة المعروف نقابيًا، وما يمثله تاريخها المشرف فى العمل النقابى، إلى جانب أنها تضمن جميع أصوات الصحفيين من حزبها التى تُحشد تلقائيا حتى ولو كانت أمينة فى مهمة خارج البلاد أثناء إجراء الانتخابات، وأيضًا لأن مبنى النقابة موقعه تحت بيتها أى أنه جزء من حياتها العامة والخاصة وسألته بعد دفاعه الحاد المفحم عن الخِصم عما إذا كان سيعطينى صوته؟! فأجابنى بتكشيرة حنون: أيوه.. وخرجت لأجد الزميلة أمينة فى حجرة السكرتارية فى انتظار مقابلة أستاذ بهاء.. ونجحت أنا فى الانتخابات باكتساح، ومن تداعيات الصحافة والنقابة والانتخابات من عشرات السنين ركنت مولودى باكيا بجوارى لأسكت على الجانب الآخر صوت الرنين المتواصل وصرخت: آلوووه، فأتانى كلامه من بعد سلامه هادئا رقيقا يحمل لى الأثير وقع ابتسامته الدمثة التى لا تغادر أبدًا ملامحه وكأن الأستاذ جلال الدين الحمامصى قد ولد فى المهد بها.. هنأنى بالمولود الجديد، وأعقب تمنياته الحارة برغبته بضرورة حضورى للنقابة للادلاء بصوتى فى الانتخابات التى ستنعقد هذا الصباح، ولم يشأ أن ينهى طلبه الحاسم المشبع بدفء أبوى إلا بحاشية بليغة المحتوى من أن لى مطلق الحرية فى اختيار شخصية النقيب.. وكانت المعركة على مستوى النقيب غاية فى السخونة بينه ممثلا لأسرة أخبار اليوم، وبين الأستاذ على حمدى الجمال على رأس أسرة الأهرام.. وكنت أنا فى موقع الحيص بيص واقعة فى مطب المفاضلة بين ممثل منبتى الصحفى ومسقط رأسى فى أخبار اليوم، وبين بيتى ونموى وعملى واكتمالى فى الأهرام.. وضعنى أستاذى الحمامصى برنينه المبكر فى منطقة البين بين ما بين مراتع الصبا وجدران الوقار، وكدت أعده بانضمامى لمعسكره مع تقديم كافة فروض الاحترام، لكنى تراجعت فى اللحظة الأخيرة بحجة أن ليس هناك من أترك له مهمة رعاية المولود وهو لم يزل لحمة حمراء، فآتتنى إجابته العملية الفورية ذات الإصرار بأنه سيرسل لى وبفورية Nurse أى مربية تمكث إلى جانبه لحين عودتى.. وأسقط فى يدى وذهبت للنقابة وسلمت عليه وشكرته، وتسللت لأنتخب على حمدى الجمال وفى أذنى طنين اصطنعته ليعلو على صوت الأصول وحق الأستاذية ورد الجميل وغض النظر عن هدية ال Nurse وحجتى فى فعلتى أن الأستاذ جلال ذات نفسه قد منحنى حريتى التى استخدمتها بكامل حريتى فى انتخاب الأستاذ الجمال، وأنا فى ذلك لم أحد عن مبادئه وما كرسته فينا دروسه الصحفية: نريد جيلا رائدا عملاقا لا يعرف النفاق.
وعلى دِرب المسيرة الصحفية عاشت معى أحلام نجيب محفوظ سنين، من بدايتها حتى الحلم رقم 146 بخط يده، قبل أن تُرهق اليد تماما – إثر إصابته بالاعتداء الآثم – فيُمليها على سكرتيره، وإن كنت بعد هذا الرقم قد اقترحت عليه أن يكتب كلمتين فقط بأصابعه مع بداية كل حلم حتى يحمل العمل الأدبى نوعًا من الحميمية فقبل الأستاذ الاقتراح.. ومكث الغيث منهمرًا يروى «نصف الدنيا» بأحلام فترة النقاهة التى يرسلها لنا فى توقيت محدد كالساعة على يد سكرتيره الحاج صبرى فى مظروف حكومى كبير مذيلا بتحياته لى وتحتها إمضاؤه العالمى.. وعندما أقصيت غصبًا عن موقعى وعن أحلامه وعنه وعن موقعى لتلقى زاده المتفرد للنشر المدوى اختفى هو الآخر.. توارى كاتبى.. تجمدت مسيرة الأحلام حتى خُيّل للجميع أنه قد أغلق باب الحلم وعاش صخر الواقع وجحيمه وجحوده حتى رحيله.. ومكثت طويلا لا أتقبل فكرة أن يُغلق نجيب محفوظ بابا فلسفيا فتحه أمام الأجيال القادمة.. مكثت طويلا لا يعترينى الشك فى أن نهر العطاء لم يزل هناك منهمرًا يوسع مجراه ولو فى باطن الصخر وطيات الخفاء ومؤمنة على ما قاله الحاج صبرى كاتب أحلامه من أن الأستاذ ظل لقرب رحيله يُملى عليه العشرات بعدما ينشغل بصياغة كل منها لفترة ثم يحفظه عن ظهر قلب.. فأين تلك الأحلام وقد أحصاها صبرى عشرات؟!!
وفجأة يظهر الكنز.. تكشف المصادفة عن المستخبى.. كريمتا صاحب نوبل فاطمة وأم كلثوم تعيدان ترتيب أوراق الأب من بعد وفاة الأم فتكشفان الثروة الأدبية التى لا تقدر بمال لتنشرها الشروق فى كتاب يضم الجزء الثانى من الأحلام لأشرف بتقديمها كما شرفت من قبل بتقديم الجزء الأول منها فى عام 2005، وأظل أحسد نفسى لموقعى المتفرد من أحلامه الذى كان يتمناه كل الملتصقين بنجيب محفوظ وهو على قيد الحياة وحتى بعد رحيله.. أن أكون أولى القارئات.. أن أكون أولى المفسرين وليأت بعدى الآخرون، فقد حمّلنى الأستاذ بمسئولية أحلامه منذ البداية.. بحكم شدة الاقتراب.. بحكم الإعجاب الشديد.. بحكم المسار الضمنى الزمنى الطويل.. بحكم فهمى وإخلاصى له ووثوقه الكريم بى.
وفى سكة الصحافة التقيت بنجاة مَن نصحها الموسيقار محمد عبدالوهاب بالاتصال بى لتسمعنى أغنيتها الجديدة من ألحانه وكلمات نزار قبانى «أسألك الرحيلا» ومن يومها للآن شُيّد بيننا جسر من الصداقة الحاضنة والألفة الشديدة والود العميق لم أجدها فى زمـن اقترابى من شقيقتها سعاد أيام كانت تقوم ببطولة قصصى «هو وهى».. نجاة التى عرفتها عن قرب وسافرت معها لبلاد تكرّمها كأميرة، واستمعت إليها أحاديث طويلة بلا غناء، وأصبحت لى بمثابة الشقيقة الثالثة - من بعد آمال وبثينة - التى اعتدت على وجودها أمامى ومعى إلى أن جاءتنى لتجلس أمامى وتلقى على مسامعى قنبلتها، وفى قمة الهدوء ومنتهى البساطة والوداعة والسلام تكمّل ارتشاف فنجان الشاى الأخضر.. قالتها فى جلستنا الحميمة عام 2003 بصوتها الكمنجاتى الناعم وكأنها تكمّل شطرة من قصيدة تتغنى بها لنزار قبانى: قررت الاعتزال.. ولأول مرة معها يملؤنى شعور فياض بالغضب حتى كدت أصرخ فيها دون سيطرة على مقاليد الغضب: بتقولى إيه؟!! فى قمة العطاء تعتزل! فى أوج الاكتمال تتوقف!!.. قيثارة الغناء تضع القيثارة جانبًا!!.. العائدة لفورها من بعد إحياء ثلاث حفلات حافلة بآلاف الجماهير المنصتين المعجبين صاغت فيها من قلادات النجاح طربا وتفردًا، وكان أمامها ثلاثة عروض أخرى يسيل لها اللعاب للتوقيع بالآلاف.. تعتزل!! وتمتلكنى وقتها نزعة ثقة بالغة فى قدرتى لإقناعها بالتنازل عن قرارها تأتينى قوتها من نبض أغانيها التى رددتها عن قناعة بكلماتها بمفهوم حلاوة الرجوع عن قرار البعد والهجر، لقد حفرت بحنجرتها الماسية على جدار القلب قولها: كم قلت إنى غير عائدة له ورجعت ما أحلى الرجوع إليه.. لا تكترث لكل ما أقول يا حبيبى فى زمن الوحدة أو وقت الضجر، وابق معى إذا أنا سألتك الرحيلا.. قرارك يا نجاة مستحيلا.. وسألتها: خصام؟!.. أبدًا.. حزن؟!.. أبدًا.. إحباط؟!.. أبدًا.. اعتكاف؟! أفصحى.. تجيبنى: فيما غنيت الكفاية.. لكنا لم نكتف. لكنا لك آذان مفتوحة.. لكنا وحشة دائمة لك. لكنا عطشى بديع السمع ونظافة الأذن وحقيقة الطرب.. لكن عيون القلب سهرانة شوقًا لتلك الآهة منك تصعد فى موال يُحاكى الآذان.. رباه.. رباه.. رباه.. يا نجاة البعيد على صدى صوتك الخلاب فى بلاد بعيدة سمع النداء لبىّ: وابعتوا لنا مع الطير اللى راجع سلام وكلام يمكن يريحنا ولا يفرحنا، ويقول للقلب إنه فاكر إن له فى بلاده أحباب.. وعدت أسألها: الوحشة إلى جمهورك. إلى إشراق رفع الستار عنك. إلى الانحناء والعطاء والتلقى الفورى، إلى دوذنة الآلات، إلى أجواء الاستعداد والتحضير ووزن الكلمات بميزان الحرير. إلى دوى الحفاوة فى انتظار إشارة عصا المايسترو لتهدر الألحان وينفرد شدو القيثارة يرتفع فى الأعالى منشدا ومطربا ورائعا وشامخا وهامسا. إلى الإنصات الواعى الذى يسبق عاصفة التصفيق.. كلام تنصت له نجاة وتعود لترتشف الشاى الأخضر وتبتسم فى سلام مع إشراقة داخلية تتسع إلى الخارج راضية بعطاء كل ما كان فى الوسع.. ببذل كل ما كان فى الجهد بالتعامل مع الفن وأهل الفن إلى آخر المدى. باستنشاق كل النغم وجميع المقامات.. بتأدية الرسالة كاملة على أكمل وجه.. نجاة.. فشلت فى إقناعها. فى إثنائها عن قرار الاعتزال. العزيزة القديرة صلبة تمامًا.. فصيحة النطق بإعجاز البساطة. سيدة القرار فى كلمتين اثنتين فقط لا غير قالتهما فى هدوء دون صخب أو تنكر لتاريخها الفنى الطويل، ولا يرجع ذلك إلى أخلاقياتها فحسب، وإنما إلى وعى بقيمة وروعة ما قدمته لساحة الغناء دون تبذل أو إسفاف. هادئة الأعصاب تغادر الميدان بشموخ. ترفع يدها بالسلام. تترك باقة الزهور لنا.. يومها ألقت عن كاهلها الثقل وتركتنى أدور فى متاهة المسئولية الضخمة لأعتذر لجماهيرها بالنيابة عنها.. ويمضى عشرون عاما ربما أذبت بعضا من سدود لتطل نجاة فى بعث جديد للحظات قصار فى أوائل هذا العام على مسرح الرياض فيهب الحاضرون وقوفا فى حضرتها لتحيتها فتغنى لهم من حلو شدوها عيون القلب.. وحتما استشعرت من قست علينا مبكرا بقرار الاعتزال بأننا شايلين مطرحك فى القلب.
...............................
واعذرونى إذا ما كانت هناك أخطاء غير مقصودة فى التواريخ ومواقع الأشخاص وحبال السرد، فالعتب هنا على تقدم السن التى لابد معها أن تكون كثرة الاستخدام قد أصابت شاشة الذكرى بخدوش بالطول والعرض، ولمباتها بالخفوت التدريجى، وصواميلها بالتآكل، وصندوقها الأسود بالوهن ليتسرب بعضًا من محتواه، إلى جانب مظاهر الشقلباظ التى عاصرتها، والكعبلة فى خيوط عرائس المارونيت التى درت بينها، والمانشتات التى شطرتنى وأدمتنى وعجنتنى وخبزتنى وسرقت شبابى وطرحتنى فى الأسواق الكيلو من ده بقرشين.. ولكننى والحمد لله أدائى على قدى وقاعدة فى بيتى عارفة خريطة النوم والسفرة والسجادة والبلكونة والحمام، وكافية خيرى شرى، لا أنا طامعة فى تحنيط منصب مثل بايدن ولا معرضة للاغتيال وودانى مغطياها بشال، ولا أذهب لليمين بدلا من الشمال، وبعيدة تماما عن شبح الزهايمر ومدركة تاريخ السنة واليوم، ولا يأخذ منى حل الكلمات المتقاطعة بعواصمها العالمية لحظات.. ومُدركة الفارق ما بين الشيخ مصطفى عبدالرازق وشقيقه على، ومصطفى مشرفة وعلى مشرفة والدكتور حسين أمين وأحمد أمين، وحسام حسن وإبراهيم حسن، وحسين فهمى وأخوه مصطفى، وعبدالله غيث وحمدى غيث، وياسر ورامز جلال... وأحمد وعمرو سعد.. وإن كنت غير مسيطرة تماما على عجلة قيادة سفينة أعصابى فى بحر الدموع!