في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، تزداد الحاجة إلى تقعيد البناء الأخلاقي وتقصيد أسسه وتأصيل قواعده في صناعة الفتوى. هذه الحاجة تنبع من التحديات المعاصرة التي تتطلب فهماً عميقاً ومستداماً للأخلاق والقيم في توجيه الأحكام الشرعية، مما يساهم في تعزيز التواصل الحضاري بين المجتمعات المسلمة وباقي مكونات المجتمع العالمي.
إن الفتوى، بصفتها توجيهاً شرعياً لحياة المسلمين، تتطلب التزاماً قوياً بالأسس الأخلاقية. وقد أشار الفقهاء الكبار مثل الإمام القرافي إلى أن الاجتهاد الفقهي لا يمكن أن ينفصل عن الأخلاق؛ حيث قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، مؤكدًا بذلك أن المقاصد الأخلاقية يجب أن تكون حاضرة في كل فتوى.
وفي السياق ذاته، يبرز دور الفتوى في بناء مجتمع فضيل، كما أشار ابن عبد البر بقوله: "العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر"، مما يعزز الحاجة إلى فتاوى تراعي الجوانب الأخلاقية وتطبقها في الحياة اليومية للمسلمين.
من هذا المنطلق، فإن المؤتمر العالمي التاسع الذي تنظمه الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تحت عنوان "الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع"، يأتي في وقت حاسم. يهدف هذا المؤتمر إلى تعزيز الوعي بأهمية الفتوى الرشيدة في ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاق، ويعمل على مواجهة تحديات العصر الحديث من خلال مناقشة محاور ثلاثة أساسية:
1. البناء الأخلاقي في الإسلام ودور الفتوى في تعزيزه: يستعرض هذا المحور كيفية تعزيز الأخلاق من خلال الفتاوى، مستندين إلى تراث فقهي غني يؤكد على ضرورة الأخلاق في الاجتهاد الشرعي. يُذكر هنا قول الإمام هلال الفاسي: "الفقيه من جمع بين الفقه والأخلاق".
2. الفتوى والواقع العالمي: الأفكار والمبادئ: يركز هذا المحور على التحديات التي تواجه الفتوى في ظل التسارع العالمي والتغييرات المستمرة. يهدف إلى صياغة فتاوى تلائم العصر وتراعي السياق الحضاري والتقني الحديث.
3. الفتوى ومواجهة عقبات وتحديات البناء الأخلاقي لعالمٍ متسارع: يناقش هذا المحور العقبات التي تعترض سبيل الفتوى الأخلاقية في العصر الحالي، ويبحث عن حلول فعّالة لمواجهتها، مما يتطلب تعاوناً بين مؤسسات الفتوى والمنظمات الدولية والإقليمية.
إن للمجتمعات المسلمة في خارج العالم الإسلامي دورًا حيويًا في تجسير الهوة بينها وبين المجتمعات الأخرى، وذلك من خلال التركيز على البعد الأخلاقي للأحكام الشرعية. الفتاوى التي تركز على الأخلاق تساهم في تعزيز التواصل الحضاري وتقديم صورة مشرقة عن الإسلام، قادرة على التفاعل الإيجابي مع مختلف الثقافات والأديان.
في ختام المؤتمر، سيتم تقديم توصيات عملية لتعزيز البناء الأخلاقي في المجتمعات، تشمل إطلاق مبادرات ومشروعات مهمة مثل بلوغ المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية 102 مجلد، وإصدار الميثاق العالمي للقيادات الإفتائية والدينية في صُنع السلام ومكافحة خطاب الكراهية. هذه الجهود تعكس الرؤية الشاملة لتعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية من خلال الفتوى، وتؤكد على دورها المحوري في بناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة.
إن العمل على تقعيد البناء الأخلاقي في الفتوى هو استجابة ضرورية لتحديات العصر، وهو ما يجعل الفتوى وسيلة فعّالة في بناء مجتمع يسوده العدل والرحمة، ويعزز من التواصل الحضاري بين المسلمين وغيرهم، مما يعكس روح الإسلام الحقيقية ويدعم التعايش السلمي والاحترام المتبادل.