صدق من قال إن للعلم شطحاته، وللعلماء لحظات من الجنون، فباسم العلم، قام الدكتور نيكو دوسنباخ بمسح دماغه عشرات المرات، ولكن هذه كانت المرة الأولى التي يتناول فيها مادة تسبب الحيرة قبل الدخول إلى نفق التصوير بالرنين المغناطيسي لتجربته، وعن تجربته الذاتية يتذكر قائلاً: "كنت أغرق في غرابة أعمق، لم أكن أعرف أين أنا على الإطلاق، فقد توقف الزمن، وأصبحت كل شيء".
وكان دوسينباخ، وهو الأستاذ المشارك في علم الأعصاب في كلية الطب بجامعة واشنطن في سانت لويس، قد تلقى جرعة عالية من السيلوسيبين، وهي المادة الفعالة في الفطر السحري، من زملائه، وقد كان كل هذا جزءًا من دراسة أجريت على سبعة أشخاص، صُممت لإظهار كيف ينتج السيلوسيبين تأثيراته المؤثرة على العقل.
نتائج التجربة
وبحسب التفاصيل التي نشرتها صحيفةNPR الأمريكية، فإن النتائج تشير إلى أن العقاقير المخدرة تعمل عن طريق تعطيل شبكات معينة في الدماغ، وخاصة الشبكة التي تساعد الناس على تكوين شعور بالمكان والزمان والذات، وذلك، بحسب ما نشرته مجلةNature العلمية.
ويقول الدكتور بيتروس بيتريديس من مركز لانجون للطب النفسي بجامعة نيويورك، الذي كتب افتتاحية مصاحبة للدراسة: "للمرة الأولى، وبدرجة عالية من التفصيل، نتمكن من فهم الشبكات التي تتغير، ومدى شدة تغيرها، وما الذي يستمر بعد التجربة "، وقد قدم البحث أيضًا نظرة فاحصة على كيفية تعزيز هذه الأدوية مؤقتًا لقدرة الدماغ على التكيف والتغيير، وهي القدرة المعروفة باسم اللدونة.
فيما يقول الدكتور جوشوا سيجل، الباحث في جامعة واشنطن والمؤلف الرئيسي للدراسة، إن الاضطرابات في شبكات الدماغ تبدو "مصدر التأثيرات البلاستيكية للمواد المخدرة"، ويضيف: "إذا كان هذا صحيحًا، فقد يفسر ذلك سبب قدرة المواد المخدرة على مساعدة الأشخاص الذين يعانون من الإدمان أو الاكتئاب.
رحلة ذكية
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فقد تم توزيع دوسينباخ والمشاركين الآخرين بشكل عشوائي لتلقي إما منبه أو 25 مليجرام من السيلوسيبين، وهي جرعة عالية بما يكفي للتسبب في الهلوسة، وعن التجربة يقول دوسينباخ: "قد كانت بالتأكيد تجربة رائعة لعالم الأعصاب، فمن المثير للاهتمام حقًا كيف يمكن لعقلك أن ينهار - لأن كيفية انهيار شيء ما تخبرك بكيفية عمل شيء ما".
وقد أخذت رحلة دوسينباخ به إلى أماكن من المحتمل أن يذهب إليها عالم أعصاب فقط، ويقول: "كنت داخل الدماغ، وكنت أركب موجات الدماغ، وكنت مارك رايشل"، وذلك في إشارة إلى الدكتور ماركوس رايشل، وهو زميل ومؤلف مشارك في الدراسة، وهو أيضًا شخصية بارزة في عالم علم الأعصاب.
وكجزء من الدراسة، تم مسح أدمغة المشاركين بمعدل 18 مرة على مدى فترة ثلاثة أسابيع، وكرر أربعة منهم التجربة بعد ستة إلى اثني عشر شهرًا، ويقول سيجل: "إنك تقوم بإشراك أفراد منفردين عدة مرات، وهذا يسمح لك بالحصول على خريطة مفصلة ودقيقة للغاية لشبكات أدمغتهم".
تغيرات سريعة في شبكات معينة من الدماغ
وأظهرت الفحوصات أن السيلوسيبين يسبب تغيرات سريعة ودراماتيكية في شبكات معينة من الدماغ، وعادة ما تصبح الخلايا العصبية في شبكة معينة نشطة في نفس الوقت ــ وغالبا بالتزامن مع شبكات أخرى أيضا، ويقول سيجل: "ما يحدث أثناء تأثير السيلوسيبين هو أن مجموعات الخلايا العصبية التي تكون في حالة تزامن عادةً تصبح خارج التزامن".
ويضيف: "ينهار الدماغ، ويبدو أنه يستجيب من خلال الدخول في حالة من المرونة المتزايدة التي يمكن أن تستمر لأسابيع، فمن المحتمل أن يكون عدم التزامن دليلاً حاسماً على مصدر التأثيرات البلاستيكية للمواد المخدرة".
وكان فقدان التزامن أعظم في مجموعة من الخلايا العصبية في الدماغ تسمى شبكة الوضع الافتراضي، والتي تنشط عندما يكون الدماغ غارقًا في أحلام اليقظة أو عندما لا يركز على العالم الخارجي، وقد تم اكتشاف هذه الشبكة من قبل علماء من بينهم رايتشل، الرجل الذي أصبح الأنا البديلة لدوسينباخ في الماسح الضوئي
ويقول سيجل إن شبكة الوضع الافتراضي مهمة للذاكرة المرجعية الذاتية، والتي تساعد الدماغ على تتبع المعلومات مثل، من أنا؟ وماذا كنت أفعل؟.
تغيير رأيك
وتشير الدراسة إلى كيفية دمج العقاقير المخدرة في علاج الأشخاص الذين يعانون من الإدمان أو الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة، ويقول بيتريديس: "يبدو أن هذا هو الوقت المناسب للتغيير المتزايد الذي يمكن للمعالجين الاستفادة منه"، ويوضح أن المريض المدمن، على سبيل المثال، قد يكون قادرًا على إعادة صياغة علاقته بالمواد في الأيام والأسابيع التالية لتناول جرعة من السيلوسيبين.
ولكن هذا النهج محفوف بالمخاطر، كما تقول الدكتورة جينجر نيكول، وهي طبيبة نفسية في جامعة واشنطن وكان زوجها مشاركاً في الدراسة وتناول السيلوسيبين مرتين، وأضافت: "لقد كانت له تجربة دينية تقريبًا في المرة الأولى، ففي المرة الثانية، رأى الشياطين".
ومع ذلك، فإن المواد المخدرة قد توفر وسيلة لمساعدة المرضى النفسيين على إدراك قدرتهم على التغيير، كما يقول نيكول، وتوضح: "يستغرق الأمر سنوات لمعرفة ذلك من خلال العلاج، وهذا يمنحنا طريقة مختلفة للتفكير في التعلم والتعافي".