من الطبيعي أن الحديث داخل قاعات المؤتمرات، أو مراكز الأبحاث، أو حتى دهاليز مقرات أجهزة الاستخبارات يعد أسهل كثيرا من الحديث على أرض الواقع وداخل تفاصيل الحياة اليومية، وتعد الآثار الكارثية التى تركتها مجازر الإبادة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني والتدمير الممنهج، من أكثر الإشكاليات التى تطرح سؤال هام وجوهري، وهو "كيف ستكون الحياة داخل غزة بعد انتهاء الحرب".
ويعد أفراد المؤسسة الإنسانية الذين يعملون داخل القطاع في ظل الحرب الحالية من أكثر الناس اطلاعا على أحوال القطاع، ومن ضمنهم أروى دامون، مراسلة دولية سابقة، وهي رئيسة ومؤسسة مشاركة للمنظمة غير الربحية الشبكة الدولية للمساعدات والإغاثة والمساعدة (INARA )، والتي خلصت أن ما قامت به تل أبيب جعل سكان قطاع غزة ما بين خيارين بعد توقف الحرب، وقالت إنها تركت السكان ما بين خيارين، الأول دعم حماس بقوة، أو يكون البديل «الحرب الأهلية».
وترصد "صدى البلد" الرؤية الحالية للقطاع وخيارات المستقبل من خلال مقال مطول لـ"أروى دامون" على شبكةCNN الأمريكية حول تلك الخيارات.
واقع مرير
بحسب دامون، فخلال المهمات الإنسانية السابقة في غزة، دخل عمال الإغاثة مثلي إلى القطاع عبر معبر رفح الحدودي مع مصر، حيث استقبلنا بحر من الخراب الإنساني، وقد تدفقت الخيام من المدارس التي تؤوي النازحين وغطت الأرصفة، كما شقت حفنة من المركبات والعربات التي تجرها الحمير طريقها ببطء وسط حشود بشرية كثيفة، فقد أصيب الناس بالذهول النفسي، فقد كانوا على قيد الحياة ولكنهم ماتوا بطريقة ما.
وقد اختفت الآن كل تلك المشاهد المروعة في رفح، كما رأيت الشهر الماضي عندما عدت إلى غزة في مهمة إنسانية أخرى مع مؤسستي الخيرية "إنارا"، بعد غياب دام شهرين، وقد أدى التوغل الإسرائيلي في رفح إلى نزوح أكثر من مليون إنسان قسراً إلى الجزء الأوسط من القطاع، حيث استولوا على قطعة أرض بائسة أخرى أقاموا عليها خيامهم.
ولجعل الوضع السيئ الذي لا يوصف أسوأ، أدى إغلاق معبر رفح إلى إعاقة العمليات الإنسانية بشكل أكبر، حيث أغلق الطريق الوحيد لإجلاء المرضى والمخرج الوحيد لسكان غزة، والآن يحتاج عمال الإغاثة مثلي إلى أن يتم نقلهم في قافلة مدرعة عند معبر الحدود الجنوبي مع إسرائيل، والمعروف باسم كرم أبو سالم أو كرم أبو سالم.
الألم والخوف واليأس والخسارة
ووفقا لشهادة مؤسسة المنظمة الدولية للإغاثة، فإن غزة لا تشبه أي شيء رأتها من قبل، فقد كانت في مناطق حرب كافية على مدى السنوات السبع عشرة الماضية لأدرك أن المزيج المتفجر من الألم والخوف والغضب واليأس والخسارة على نطاق واسع الذي عانى منه قطاع غزة وشعبه ــ إلى جانب انعدام القانون المتزايد ــ من شأنه أن يضمن تدهور الأمور إلى حالة من الفوضى المدنية .
"لقد بدأ اليأس والخوف المستمرين في تآكل القواعد الأخلاقية التي تحافظ على تماسك المجتمع، وبدون سيادة القانون، وبدون قوة حفظ السلام، وبدون المساعدات الإنسانية، سوف تشتعل غزة وتنزلق إلى الفوضى الأهلية، وغزة غير المستقرة وغير الصالحة للسكن لا تخدم إلا الأهداف الظاهرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لتجنب أي محاولات حسن نية لإحلال السلام الدائم بينما يتعدى الإسرائيليون على المزيد من الأراضي الفلسطينية.
ومن خلال نظام اتصال لاسلكي، يحذرنا الصوت القادم من السيارة الرئيسية في موكبنا من "وجود كثيف للناس" على طول طريقنا وانخفاض الرؤية بسبب الغبار، ويحثنا على "إبقاء الأبواب مغلقة"، إنها علامة مشؤومة على ما قد يأتي في المستقبل في هذه الأرض التي تعرضت بالفعل لضربات وحشية.
فتزايد أعمال النهب والأنشطة الإجرامية وانعدام القانون في غزة يجعل الناس يخشون ما يطلقون عليه "الحرب القادمة"، وهي حرب أهلية، فعندما ينتهي الهجوم الإسرائيلي، والانهيار الأمني الشامل وانعدام القانون من شأنه أن تتفجر الخلافات الداخلية، أو يكون البديل خلق فرصة أكبر لحماس للعودة إلى السلطة، وكأن تل أبيب تدعم استمرار حكمها مع حجم التدير والإبادة داخل القطاع.
رغبة في الاستقرار
ويخشى بعض سكان غزة، الذين لديهم شغف قوي بالاستقرار بعد تسعة أشهر من الأعمال العدائية، من أن الإقطاعيات الصغيرة التي بدأت تتشكل وعدم الاستقرار المصاحب لها من شأنهما أن يفسحا المجال لحماس أو نسختها التالية كضمان وحيد للأمن والاستقرار داخل غزة المدمرة، فلا يوجد سوى طريق واحد تسمح إسرائيل للمنظمات الإنسانية باستخدامه من معبر خان يونس للتقدم إلى عمق غزة، ويستخدم هذا الطريق الشاحنات التجارية وشاحنات المساعدات، فضلاً عن القوافل مثل القوافل التي أستقلها، والتي تنقل عمال الإغاثة.
وعلى هذا الطريق هناك جزء من الطريق نحصل على "الضوء الأخضر" من إسرائيل للسير عليه، فقد أصبح هذا الجزء المهجور من الطريق ملاذاً للعصابات واللصوص، يبدو المشهد وكأنه مشهد من فيلم زومبي مروع، ويبدو أن الأسفلت قد تم مضغه ثم بصقه مرة أخرى، فما تبقى من المباني لم يكن أكثر من جثث، وكل شيء رمادي اللون وأسود محترق، فأرفع رقبتي محاولاً استيعاب المشهد، لكن الأمر مستحيل.
فقد كانت هناك مجموعات من الرجال يتسكعون على طول الطريق، بعضهم يحمل الهراوات، وبعضهم يحمل السواطير، إنهم ينتظرون لشن هجوم على شاحنات المساعدات، ولكنهم يبتسمون ويلوحون لسيارات الجيب التي تحمل علامة الأمم المتحدة والتي لا تغرينا كثيراً، وقد شاهدت مراهقين يحفران الأرض القذرة لجمع بقايا كيس منفجر من نوع ما من الحبوب، وهذه في الواقع "أرض لا أحد" في "منطقة حمراء" محددة، وهذا أكثر تنظيماً وإجراماً وشراً مما تجده عندما يتجمع الناس الجائعون فقط حول شاحنة المساعدات.
سوق سوداء مزدهرة للسجائر
ويتحدث المقال عن بعض العصابات التي تدفع نفسها إلى النهب من أجل تلبية احتياجاتها الخاصة؛ في حين تحاول عصابات أخرى بيع كل ما تستطيع الحصول عليه في السوق، ولكن الجماعات الأكثر ذكاءً وتهديداً هي شبكات تهريب السجائر المختلفة، فمنذ السابع من أكتوبر، لم تعد السجائر تدخل غزة باعتبارها بضائع تجارية ـ ولم يتم تقديم أي سبب لذلك، ولكن هذا ليس مفاجئاً على الإطلاق، نظراً لقائمة طويلة ومتنامية من السلع التي تفرض إسرائيل قيوداً تعسفية عليها، وفي رحلتي إلى غزة في إبريل، مازحني أحد المدخنين المتحمسين قائلاً: "إنهم يعرفون أنهم قادرون على تدميرنا من خلال حرماننا من النيكوتين".
وفي ذلك الوقت، كان سعر السيجارة الواحدة نحو 10 دولارات، أما الآن، فقد أصبح يتراوح بين 17 و25 دولاراً، حسب العلامة التجارية، وإذا قمت بتهريب خمسة صناديق فقط من السجائر في شاحنة، فإنك ستحصل على راتب ضخم يصل إلى 20 ألف دولار، وفي بعض الأحيان، تتحول شاحنات المساعدات إلى بغال غير مقصودة لمهربي السجائر، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعلها مستهدفة.
ومشاهدة كل هذا عن كثب أمر صادم، ولكنه ليس مفاجئاً على الإطلاق، ففي وقت سابق من هذا العام كانت هناك محاولة لاستخدام قوات الشرطة في غزة لتأمين المساعدات والقوافل، وخاصة تلك التي تغادر كانساس، ولكن بعد تعرضها لهجمات إسرائيلية متكررة انسحبت، وقد أدى اليأس والافتقار إلى المساعدات الكافية والافتقار إلى الأمن إلى زيادة النشاط الإجرامي، كما اعترف السفير ديفيد ساترفيلد، المبعوث الخاص لوزارة الخارجية للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط، منذ فترة طويلة في فبراير في مقابلة مع مؤسسة كارنيغي.
ومنذ البداية، تخلت إسرائيل عن مسؤوليتها عن ضمان أمن قوافل المساعداتوموظفيها. وتنشر الوكالة العسكرية الإسرائيلية لتنسيق أنشطة الحكومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة باستمرار تحديثات حول عدد شاحنات المساعدات التي تدخل غزة وتلقي باللوم على منظمات الإغاثة بسبب "فشلها في التوزيع ".
والمفارقة المحزنة هنا هي أن منظمات الإغاثة تفشل في توزيع المساعدات، فنحن ببساطة لا نستطيع أن نأخذ المساعدات بأمان من معبر الحدود دون أن نواجه سلسلة من القنابل الإسرائيلية التي تسقط من السماء، واللصوص والعصابات الإجرامية على الطرق الوحيدةالتي يُسمح لنا باستخدامها لجمع المساعدات، ولا تسمح لنا إسرائيل باستخدام طرق بديلة، بل إننا لا نملك حتى الإذن بإدخال المعدات اللازمة لإصلاح الشاحنات التي بالكاد تقطع مسافات طويلة، وتؤدي هذه العملية المتعثرة إلى تعقيد الوضع الأمني الصعب بالفعل.
إرساء الأساس للحرب الداخلية
ونمر بمساحة شاسعة من الخراب: هياكل من بيوت الناس التي كانت قائمة بالكاد، أشاهد أطفالاً يبحثون بين الأنقاض، تلتقط عيني بريقاً لامعاً لقطعة قماش خضراء مزينة بالترتر، ثم قطعة قماش أرجوانية. هل كان ذلك متجراً لبيع الفساتين؟ أم بقايا خزانة ملابس شخص ما؟ يركض الأطفال أمام مجاري الصرف الصحي المفتوحة وهم حفاة، ويحمل آخرون جرار ماء ثقيلة مثلهم تقريباً، وفي المسافة يمكنك سماع رشقات نارية متقطعة في أحياء بعيدة عن أي نوع من خطوط المواجهة.
"لا تقلقوا، إنها مجرد نزاعات قبلية، ولكن من الأفضل أن ننزل إلى الداخل"، هكذا قال أحد الرجال الذين ينصبون الألواح الشمسية في ملجأ تدعمه منظمة إنارا، وهو يصحبنا إلى خارج السطح في إحدى الأمسيات، تلاقت أعيننا، وأستطيع أن أرى خوفه، إنه خوف رأيته وسمعته يعبر عنه مرات عديدة خلال هذه الرحلة إلى غزة، إنه خوف من "الحرب بعد الحرب"، حيث يعتقد البعض أنها بدأت بالفعل، "نحن خائفون مما سيأتي بعد ذلك"، كما قال وهو يهز كتفيه.
وغزة ليست غريبة على الديناميكية العائلية القبلية والعصابات، وكما أوضحت لي إحدى صديقاتي من غزة: "لقد نجحت حماس في السيطرة على كل الصراعات القبلية العائلية والعصابات الإجرامية، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلتها تحظى بشعبية كبيرة في البداية، والآن يعاد خلق كل هذا في ظل الفوضى، والمهربين، والمافيا التي بدأت تظهر".