حدث فى عام 1908 أن الخديوية المصرية بدأت علاقتها الدبلوماسية مع بلد أوروبي مهم ومؤثر هو "صربيا".. ثم جاء جمال عبد الناصر ليوطد علاقته أكثر بصربيا من خلال الرئيس تيتو وحركة عدم الانحياز.
واليوم وبعد مرور مائة وستة عشر عاماً على بدء العلاقات الدبلوماسية، يوطد البلدان علاقتهما ويدعمانها من خلال الجسر الثقافي.
ففي الفترة من 10 حتى 12 يوليو سوف تقام فعاليات "أيام الثقافة الصربية فى مصر" تحت رعاية وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو. وهو الأمر الذي يدعو للتفاؤل بأداء حماسي لوزارة الثقافة مع وزيرها الجديد النشيط.
بداية مبشرة
ليست وزارة الثقافة وحدها المعنية بالأمر وإن كانت هي صاحبة الدور الأكبر والأبرز. الفعاليات سوف تتم بمشاركة عدة مؤسسات منها: وزارة الخارجية المصرية، والهيئة العامة لتنشيط السياحة، وسفارة مصر فى صربيا. إلا أن الفعاليات شكلاً ومضموناً ثقافية بامتياز..
إذ من المقرر أن يمتلئ البرنامج الاحتفالي خلال أيام الاستضافة بعدد من الندوات والعروض والحفلات بالمجلس الأعلي للثقافة ودار الكتب وبدار الأوبرا المصرية. والحقيقة أن مثل هذه الاحتفاليات والفعاليات المشتركة بين مصر ودولة أوروبية لنا معها تاريخ يمثل جسراً دبلوماسياً متعدد الأبعاد والأهداف والمزايا.
فلطالما ساهم التعاون الثقافي والامتزاج الفني والأدبي فى إعادة هندسة العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدان.
هناك حوارات وندوات سوف يتم تنظيمها من بين الفعاليات، وهناك عروض للفنون الشعبية الصربية والمصرية، ومعارض للفنون والصور الفوتوغرافية هدفها الترويج سياحياً لصربيا. كل هذا وغيره من شأنه أن يدعم التواصل بين البلدين ويرسخ لعلاقات وطيدة مستقبلية فى عدة مجالات أخري كالسياحة والتجارة والصناعة وغيرها.
هذا الحدث مهم ويجب أن نبني عليه ونؤسس له ونتوسع فى تكراره مع بلاد أخرى أوروبية وأمريكية وآسيوية. أي أن نجعل الجسر الثقافي هو السبيل لتوطيد علاقاتنا الاقتصادية والسياسية بمختلف دول العالم.
صربيا الأمس واليوم
مرت صربيا بعدة منعطفات تاريخية فى التاريخ القديم والحديث..
هي الآن دولة جمهورية برلمانية رئيسها (الكسندر فوتشيتش)، ورئيسة وزرائها (آنا برنابيتش) هي التي تدير الحكومة. وصربيا الآن عضو فى الأمم المتحدة ومرشحة رسمياً لعضوية الاتحاد الأوروبي، لهذا تحاول بجدية تحسين أحوالها الاقتصادية، وتطوير علاقاتها الخارجية من أجل أن تقطع شوطاً فى طريق تحقيق شروط الالتحاق بالاتحاد الأوروبي.
الاقتصاد الصربي يعتمد فى مجمله على الزراعة والصناعة والسياحة، وهناك منتجات زراعية تحقق من خلالها فائض تصديري كبير، كالفاكهة المجمدة وأهمها الخوخ والتوت البري. بخلاف منتجات زراعية وحيوانية أخري مهمة.
الريف الصربي يتمتع بمناظر طبيعية خلابة ومزارات جعلته مقصداً سياحياً جذاباً؛ فمن الحدائق الوطنية، إلى التكوينات الجبلية العجيبة، إلى ينابيع المياه الساخنة ذات الفوائد العلاجية، إلى منتجعات التزلج، كل هذا جعلها تجذب أكثر من مليوني سائح سنوياً، وهو رقم هائل بالمقارنة مع صغر حجم الدولة نسبياً.
تهتم صربيا بالتعليم بشكل كبير، ولهذا فإن معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بلغ نحو 98%، أي أن نسبة الأمية لديها تكاد تنعدم! ولها تاريخ طويل فى التميز في علوم الرياضيات وعلوم الحاسبات والهندسة، ومن أبرز علمائها "نيكولا تسلا" صربي الأصل، وتعد جامعة بلجراد أحد أقدم جامعات أوروبا، وهي تحتل المرتبة الثالثة بين أفضل جامعات جنوب أوروبا.
المسلمون فى صربيا يمثلون نسبة 3% قريبة من المسيحيين الكاثوليك، لكن أغلب سكان صربيا من الأرثوذكس. والصرب هم العرق الأكبر للسكان هناك، مع نسبة من الهنجاريين والغجر والسلوفاك والألبان والبلغار.
حركة عدم الانحياز، هي الحركة الأبرز فى تاريخها الحديث بعد حربين عالميتين عانت فيهما صربيا الأمرين، ونالت استقلالاً عزيزاً بعد تفكك يوغوسلافيا، لتصبح صربيا بشكلها السياسي الحالي وليدة عام 2006 كجمهورية مستقلة.
احتفالية مميزة
احتفالية مصر وصربيا هي إحدى نتائج القمة العالمية للحكومات التي انعقدت فى فبراير الماضي؛ حيث التقى د. مصطفي مدبولي نظيرته الصربية "أنا برنابيتش" لبحث سبل تعزيز العلاقات بين البلدين. والاحتفالية تأتي فى إطار دعم هذه العلاقات بدءاً من التبادل الثقافي وصولاً إلى مجالات اقتصادية تجارية وسياحية وصناعية تحقق مصالح البلدين.
برنامج الاحتفالية الحافل سوف يتضمن عدة فعاليات ذات دلالة: ففي صباح الأربعاء الموافق 10 يوليو سوف تقام ندوة بعنوان: "حركة عدم الانحياز ودورها العالمي". يستضيفها المجلس الأعلى للثقافة بأمانة الدكتور هشام عزمي، ويديرها عدد من أبرز أساتذة التاريخ بجامعة القاهرة، بمشاركة عدد من الخبراء الصرب. وفي مساء نفس اليوم ستقام ندوة بعنوان: "مصر وصربيا- علاقات ثقافية" سوف تتضمن كلمات ومداخلات لوزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو، والسفير (ميرو سلافتشيستونيتش) سفير صربيا بالقاهرة، والسفير (باسل صلاح) سفير مصر ببلجراد، بحضور عدد من الصحفيين والأساتذة المتخصصين فى الفنون والأدب. ويدير الأمسية الدكتور هشام عزمي، وتتضمن فيلماً تسجيلياً عن دولة صربيا.
دار الكتب والوثائق القومية سيكون لها دور فى الفعاليات، إذ تنظم الدار برئاسة الدكتور أسامة طلعت، وبالتعاون مع الأرشيف الوطني الصربي معرضاً ضخماً يتضمن وثائق مهمة لحركة عدم الانحياز ومجموعة من الصور النادرة للمؤتمر الأول لرؤساء دول الحركة، والذي تم عقده فى بلجراد عام 1961 بمشاركة مصر.
يوم 11 يوليو تستمر الفعاليات بدار الأوبرا المصرية برئاسة الدكتورة لمياء زايد، حيث يقام فى قاعة صلاح طاهر عدد من المعارض الفنية منها: معرض للحرف اليدوية الصربية، وللصور الفوتوغرافية عن الطبيعة الصربية الساحرة، مع مجموعة من مقتنيات زوجة الرئيس تيتو التي تحظي بتقدير بالغ من الشعب الصربي لدورها المجتمعي البارز، ويصاحب المعرض مادة فيلمية حول هذه الفترة الثرية من تاريخ صربيا.
يعقب المعرض حفل فني بالمسرح الكبير بدار الأوبرا من إخراج خالد جلال رئيس قطاع الإنتاج الثقافي يتضمن عدداً من العروض بمشاركة كل من فرقة رضا المصرية، وفرقة كولو الصربية للفنون الشعبية.
وفي ختام الفعاليات سوف يُعرض الفيلم الصربي: (الملك بيتر) مساء الجمعة 12 يوليو بالمسرح الصغير بدار الأوبرا. هذا الملك الذي لعب دوراً فى توحيد الصرب والكروات والسلوفينيين بعد الحرب العالمية الأولى التي ألحقت بصربيا ضرراً بالغاً بسبب الصراع بين دول المحور والحلفاء على أرضها.
فرصة عظيمة
مثل هذا الحدث الهام ينبغي أن يحظي بتغطية إعلامية كبيرة؛ للتأكيد على دور الثقافة المصرية فى دعم العلاقات بين مصر وغيرها من البلدان، ولتشجيع تكرار مثل هذه الفعاليات والاحتفاليات مع سفارات دول أخرى فى إطار علاقات ثنائية، قد تتحول فيما بعد لعلاقات تجارية وصناعية وسياحية ذات مردود اقتصادي.
وفي مثل هذه المناسبات والاحتفاليات تكمن فرص عظيمة للتعريف بمدي القوة والريادة التي تتمتع بها الدبلوماسية المصرية، وللتأكيد على أن الجسور الثقافية الممتدة بيننا وبين شعوب أخري شرقية وغربية بإمكانها تحقيق فوائد جمة مستقبلية تزيد رصيدنا الثقافي لدي هذه الشعوب وتجمل صورتنا الذهنية عندهم. إذ أن الحوار الودي القائم على الاحترام المتبادل، والتبادل الثقافي فى مجالات الفنون والآداب من شأنه أن يرسخ العلاقات الودية بين البلدان والشعوب.
كأن الثقافة إذن إحدى أخطر وأهم أدوات الدبلوماسية والسياسة.
بادرة مبشرة أن يبدأ وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو عمله بمثل هذه الاحتفالية وكأنه يؤسس لفكرة الثقافة التبادلية، وحبذا لو تتوسع الوزارة أكثر فى مجال التعاون الثقافي بين مصر وغيرها من البلدان، وربما شهدنا فى المستقبل معارض للحرف اليدوية المصرية تجوب العالم، ومهرجان للفنون الشعبية يستضيف الدول، وفعاليات دولية موسمية تتبادل فيها مصر مع مختلف بلاد العالم ثقافتها وثقافتهم.