ما هو حكم الترتيب بين الصلاة الحاضرة والفائتة عند ضيق الوقت؟، سؤال أجابته دار الإفتاء من خلال موقعها الرسمي، حيث سائل يقول: أحيانًا تفوتني صلاة العصر بسبب عذر طارئ حتى يُؤذّن لصلاة المغرب، وعند قضائها منفردًا وأنا في البيت لا يبقى في وقت المغرب إلا ما يسمح بأداء صلاة واحدة؛ فهل أبدأ بصلاة العصر الفائتة، أو بصلاة المغرب الحاضرة؟
حكم الترتيب بين الصلوات
وقالت الإفتاء: من فاتته صلاة العصر لعذرٍ حتى دخل عليه وقت صلاة المغرب وضاق الوقت بحيث لم يتسع الوقت إلا لأداء إحداهما؛ فالأولى البدء بصلاة المغرب ثم قضاء صلاة العصر؛ خروجًا من الخلاف، فمن فعل غير ذلك وبدأ بالفائتة مراعاة للترتيب فصلاته صحيحة ولا حرج عليه.
وتابعت: للصلاةِ في الإسلامِ منزلة رفيعة ومكانة عالية؛ فهي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، وثاني ما يُؤمر به من أركان الإسلام في الدنيا؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» أخرجه الشيخان؛ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي في "السنن"، وابن أبي شيبة في "المصنف" بلفظ قريب.
وجعل الله تعالى للصلوات أوقاتًا مخصوصة؛ وحثَّ على أدائِها في أوقاتِها؛ فلا يجوز للمسلم تفويت وقتِ أداءِ الصلاةِ إلا لعذرٍ أو ضرورةٍ؛ كنحو مرضٍ أو نومٍ أو سهوٍ؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103].
وقال العلامة ابن الأثير في "الشافي في شرح مسند الشافعي" (2/ 75، ط. مكتبة الرشد): [فلا وجه لترك الصلاة إلا من عذرٍ] اهـ.
وقال العلامة الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 588-589، ط. دار ابن كثير): [إنَّ الله افترض على عباده الصّلوات، وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة، لا يجوز لأحدٍ أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذرٍ شرعي؛ من نومٍ أو سهوٍ أو نحوهما] اهـ.
حكم قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان أو النوم
وقالت: إن فات المسلمَ وقتُ الصلاة لعذرٍ من نومٍ أو سهوٍ أو غير ذلك، ثم زالَ عذره؛ فإنَّه يجب عليه قضاء ما فاته من صلوات؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» أخرجه الدارمي في "السنن"، والموصلي في "المسند"، والطبراني في "المعجم الأوسط" واللفظ لهما.
وعلى هذا أجمع الفقهاء؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (3/ 71، ط. دار الفكر): [أجمع العلماء الذين يُعْتَدُّ بهم على أنَّ مَن ترك صلاةً عمدًا: لزمه قضاؤها] اهـ.
وقال تقي الدين السبكي في "إبراز الحكم من حديث رفع القلم" (ص: 85، ط. دار البشائر): [وقد اتفق الفقهاء على أنَّه لو نام مِن أول وقت الصلاة إلى آخره: وجب عليه بعد أن يستيقظ قضاء الصلاة، وذلك مجمع عليه] اهـ.
وقال بدر الدين العيني في "نخب الأفكار" (3/ 183، ط. أوقاف قطر): [وأجمعوا أنَّ مَن نام عن خمس صلواتٍ: قَضَاهَا، فكذلك في القياس: ما زاد عليها] اهـ.
كيفية الترتيب بين الصلاة الحاضرة والفائتة عند ضيق الوقت
قد اختلف الفقهاء في حكم الترتيب بين الصلاة الفائتة والحاضرة اللتين لا جمع بينهما حال الصلاة منفردًا إذا ضاق وقت الصلاة الحاضرة بحيث لا يتسع إلا لأدائها:
فذهب الجمهور؛ من الحنفية، والإمام ابن وهب من المالكية وارتضاه ابن أبي زيد القيرواني، والشافعية، والحنابلة في الصحيح إلى أنَّه يتعيَّن عليه البدء بالحاضرة؛ لأنَّه وقتها، ولكيلا تصير فائتة كسابقتها، ولأنَّ إدراك الصلاة على وقتها أفضل مِن تفويته؛ قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي في "الأصل المعروف بـالمبسوط" (1/ 152، ط. إدارة القرآن بكراتشي): [قلت: أرأيت إن نسي الفجر والظهر جميعًا ثم ذكر ذلك في آخر وقت الظهر؟ قال: يبدأ فيصلي الظهر ثم يصلي الفجر. قلت: لم؟ قال: لأن الفجر قد فاتته وهو في آخر وقت من الظهر، فعليه أن يصلي الظهر، ولا يدع أن تفوته، فيكون قد فاتته صلاتان] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (1/ 439، ط. دار الفكر): [وأما إذا خاف ذهاب وقت الحاضرة؛ فإنَّه يَجزيه عنها حتى يكون عليه قضاء الفائتة] اهـ.
وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (1/ 283، ط. دار الفكر): [(و) وجب غير شرط مطلقًا ترتيب قضاء (يسيرها)؛ أي: الفوائت (مع) صلاة (حاضرة)؛ كالعشاءين مع الصبح، فيجب تقديم قضاء يسير الفوائت على الحاضرة إن اتسع وقتها، ولم يلزم عليه خروج وقتها، بل (وإن) كان إذا قدم قضاء اليسير على الحاضرة (خرج وقتها)؛ أي: الحاضرة وصارت قضاءً؛ هذا هو المشهور، وقول الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في "المدونة".. وقال ابن وهب: يقدم الحاضرة معه] اهـ.
وقال العلامة النفرواي المالكي في "الفواكه الدواني" (1/ 227، ط. دار الفكر): [وإن ضاق وقت الحاضرة عن فعل الفائتة والحاضرة قَدَّم الحاضرة، هذا ما ارتضاه المصنف تبعًا لبعض أهل المذهب، والذي ارتضاه خليل وشراحه وهو المعتمد: أنَّ الحاضرة تُقدم على كثير الفوائت مطلقًا ولو اتسع الوقت، لكن وجوبًا عند ضيق الوقت، وندبًا عند اتساعه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 169، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(و) يُستحب (تقديمها على حاضرةٍ لم يخف فواتها) لما مر، فإن خاف فواتها وجب تقديمها على الفائتة؛ لئلا تصير الأخرى فائتة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 196، ط. دار الكتب العلمية): [فإن فاتته صلوات لزمه قضاؤهن مرتبات؛ لأنَّهن صلوات مؤقتات فوجب الترتيب فيها كالمجموعتين، فإن خشي فوات الحاضرة قدمها؛ لئلَّا تصير فائتة، ولأنَّ فعل الحاضرة آكد] اهـ.
وقال في "المغني" (1/ 437، ط. مكتبة القاهرة): [قال: (ومَن خشي خروج الوقت: اعْتَقَدَ وهو فيها ألَّا يعيدها، وقد أجزأَته) يعني: إذا خشي فوات الوقت قبل قضاء الفائتة، وإعادة التي هو فيها سقط عنه الترتيب حينئذٍ، ويتم صلاته، ويقضي الفائتة حسب. وقوله: "اعْتَقَدَ ألَّا يُعيدها" يعني لا يغير نيته عن الفرضية ولا يعتقد أنه يعيدها؛ هذا هو الصحيح في المذهب، وكذلك لو لم يكن دخل فيها لكن لم يبق من وقتها قدر يصليهما جميعًا فيه: فإنّه يسقط الترتيب، ويقدم الحاضرة] اهـ.
واختار الإمام أشهب من المالكية: أنَّه يُخيَّر بينهما؛ فيبدأ بما يشاء منهما؛ قال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (1/ 284) في الكلام عن الترتيب بين الحاضرة والفائتة إذا لم يتسع وقت الحاضرة إلا لإحداهما: [وقال أشهب: إن ضاق وقت الحاضرة يُخَيَّر في تقديم أيِّهما شاء] اهـ.
وذهب المالكية في المشهور من المذهب، والحنابلة في رواية اختارها الخلَّال: إلى أن الترتيب بين الفائتة والحاضرة واجبٌ مطلقًا حتى ولو ضاق وقت الحاضرة ما دام المتروك من الصلوات لا يجاوز صلوات يوم وليلة؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المعجم" واللفظ له، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"الآثار" و"الخلافيات"؛ فلو لم يكن الترتيب بينهما واجبًا سواء ضاق الوقت أو اتَّسع لَمَا أُمِرَ بإعادة الصلاة الحاضرة بعد صلاتها؛ قال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة على مذهب عالم المدينة" (ص: 272، ط. المكتبة التجارية): [فإذا كان المتروك صلاة واحدة أو اثنتين إلى خمس فذكرها وقد حضر وقت صلاة: أتى بالفوائت، وإن فات وقت الحاضرة] اهـ.
وقال العلامة أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (2/ 278، ط. دار الكتب العلمية): [(ويَسِيرُها مع حاضرة وإن خرج وقتها) من "المدونة" قال مالك: مَن ذكر صلوات يسيرةً في وقت صلاة: بدأ بهن وإن فات وقت الحاضرة، خلافًا لأشهب وابن وهب] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 437): [وعن أحمد رواية أخرى: أنَّ الترتيب واجبٌ مع سعة الوقت وضيقه؛ اختارها الخلال، وهو مذهب عطاء، والزهري، والليث] اهـ.