لأول مرة فى تاريخ الفاتيكان كسلطة دينية صاحبة حصانة كبرى داخل القارة الأوروبية، يخضع قادة الفاتيكان لمحاكمة أطلق عليها "محاكمة القرن"، وذلك حول اتهامات خاصة بالاستثمار فى مجال العقارات داخل بريطانيا، هى التى جعلت أكبر قادة الفاتيكان يتعرضون للاستجواب لساعات طويلة داخل جلسات المحكمة، وهم يرتدون الزى الكنسى الشهير.
وبحسب تقرير نشرته شبكةCNN الأمريكية، فقد خضع أحد أقرب مساعدي البابا فرانسيس لاستجواب مكثف أثناء تقديمه أدلة في قضية تمثل المرة الأولى التي يقف فيها الفاتيكان أمام محكمة إنجليزية، وقد شهد رئيس الأساقفة إدغار بينيا بارا، الذي يشغل منصب "البديل"، وهو ما يعادل رئيس الأركان البابوية، على النزاع بشأن الاستثمار الكارثي للكرسي الرسولي في عقار في لندن، مركز "محاكمة القرن" في الفاتيكان، وهى القضية التى يعتقد بأن هناك اختلاس من أموال البابوية تصل قيمته لـ150 مليون دولار.
رئيس الأساقفة أمام المحكمة
وبسحب الشبكة الأمريكية، فإن ظهور رئيس الأساقفة أمام المحكمة أمر نادر نظرًا لأن الفاتيكان وكبار مسؤوليه تجنبوا إلى حد كبير الدعاوى القضائية في المحاكم الأجنبية - غالبًا فيما يتعلق بقضايا الاعتداء الجنسي - تحت حماية الحصانة السيادية، ولكن يُعتقد أن الدعوى القانونية في لندن هي المرة الأولى التي يحاكم فيها الفاتيكان في ولاية قضائية أجنبية، في حين أن رئيس الأساقفة بينيا بارا هو أحد أعلى مسؤولي الفاتيكان مرتبة الذين قدموا أدلة في مثل هذه القضية.
وقد ارتدى رئيس الأساقفة الفنزويلي البالغ من العمر 64 عامًا بدلة رجال الدين السوداء أثناء شهادته وبدأ بالقسم على "الله القدير" بأنه سيقول الحقيقة، وعلى الرغم من أنه كان يحصل على مساعدة من مترجم في بعض الأحيان، إلا أنه أجاب على الأسئلة باللغة الإنجليزية، على مدى أكثر من يوم ونصف من الاستجواب، أصر رئيس الأساقفة عدة مرات على أنه "كاهن وليس متخصصا في الأعمال المصرفية"، حيث أوضح أن الفاتيكان كان ضحية ابتزاز في صفقة العقارات.
رجل أعمال إيطالى وخسائر 150 مليون دولار
وبحسب تفاصيل القضية، فقد اشترى رافاييل مينسيوني، وهو رجل أعمال إيطالي بريطاني كان من بين الذين أدانتهم محكمة الفاتيكان في ديسمبر الماضي بالاختلاس وغسل الأموال بسبب دوره في صفقة العقارات في لندن، وهى القضية المرفوعة ضد الكرسي الرسولي، وقد نفى مينسيوني كل التهم الموجهة إليه وهو يستأنف الحكم الصادر ضده، وقد كانت هذه المحاكمة هي المرة الأولى التي تتم فيها إدانة كاردينال وإصدار حكم عليه من قبل محكمة الفاتيكان بتهمة ارتكاب جرائم مالية، وتعتبر لحظة مهمة في معركة البابا فرانسيس الطويلة لتنظيف مالية الفاتيكان.
ولكن مينسيوني يسعى الآن إلى الحصول على حكم من محاكم لندن بأنه تصرف "بحسن نية" طوال تعاملاته مع الفاتيكان، والتي تتعلق باستثمارات في عقار ضخم في حي تشيلسي بجنوب غرب لندن، والذي تم بناؤه في الأصل كمعرض سيارات لمتجر هارودز، ويقول الكرسي الرسولي إنه أنفق حوالي 400 مليون دولار على الصفقة على مدى عدة سنوات لكنه انتهى به الأمر إلى خسائر قدرها 150 مليون دولار بعد بيع الأصل في النهاية.
القصة تعود لـ2014
في عام 2014، استثمر الفاتيكان 200 مليون دولار للحصول على حصة 45% في عقار تشيلسي من خلال صندوق يديره مينسيوني، الذي اشترت شركاته المبنى مقابل حوالي 165 مليون دولار (129.5 مليون جنيه إسترليني) في نهاية عام 2012، ورغم وجود خطة لتحويل العقار إلى شقق، يقول الفاتيكان إن قيمة العقار مبالغ فيها من قبل مينسيون، وإن الفاتيكان كان يخسر أموالاً على استثماره، فيما سعى رئيس الأساقفة بينيا بارا، الذي لم يكن في منصبه وقت الاستثمار الأصلي، إلى الخروج من الصفقة من خلال شراء المبنى بشكل مباشر، وفي هذه العملية، دفع الكرسي الرسولي 40 مليون جنيه إسترليني إلى مينسيون، ويقول الفاتيكان إن هذا كان "دفعًا زائدًا احتياليًا".
وكان من بين الذين ساعدوا في إبرام صفقة الخروج من صندوق مينسيوني في عام 2018 ممول آخر، وهو جيانلويجي تورزي، الذي أدين أيضًا في محاكمة الفاتيكان في ديسمبر الماضي، وقد تبين أنه قام بترتيب صفقة جعلته مسيطرًا على المبنى، بينما اشترت الفاتيكان "صندوقًا فارغًا"، ثم اتُهم تورزي بابتزاز حوالي 16 مليون دولار من الفاتيكان بينما كان بينيا بارا ومكتبه يسعيان في النهاية إلى السيطرة على مبنى تشيلسي، وفي النهاية باع الكرسي الرسولي العقار في عام 2022 مقابل حوالي 229 مليون دولار.
فاتورة مزورة!
وخلال الاستجواب المتبادل، تم استجواب رئيس الأساقفة مرارا وتكرارا بشأن مدفوعات تورزي، واتهمه محامي مينسيوني بعدم الأمانة لأن المدفوعات إلى تورزي تضمنت فاتورة مزورة، واعترف رئيس الأساقفة بإرسال فاتورة مزورة، ولكنه قال إن تورزي "وقع" بالفاتيكان وكان "يكذب ويكذب"، بينما قال بينيا بارا للقاضي مرارا وتكرارا إنه كان يحاول انتشال الكرسي الرسولي من صفقة سيئة والسيطرة على المبنى، وأوضح رئيس الأساقفة، الذي أصبح ثالث أكبر مسؤول في الفاتيكان في أكتوبر 2018، إنه لم يدرك مخططات تورزي إلا في وقت لاحق وأن بعض موظفيه كانوا "سطحيين وساذجين"، وأصر على أنه "لن يعطي تورزي أي شيء الآن، وسوف يضعه في السجن عدة مرات".
من جانبهم اتهم محامو مينسيون الفاتيكان بتوجيه "اتهام غير متماسك ومربك بالتآمر" ضد موكلهم، في حين أصر الكرسي الرسولي على أن مينسيون لم يتصرف بحسن نية، كما تم استجواب مينسيون أثناء المحاكمة، حيث اتهمه المحامون بتقديم أرقام "مضللة بشكل صارخ" حول قيمة عقار تشيلسي، ويتعلق جوهر النزاع بقيمة عقار تشيلسي، ويقول الفريق القانوني للفاتيكان إن القيمة المعلنة البالغة 275 مليون جنيه إسترليني (350 مليون دولار) للعقار في لندن في عام 2018 كانت "تمثيلًا احتياليًا" لقيمته السوقية، في حين نفى محامو مينسيوني ذلك، قائلين إنه كان "تقييمًا مدققًا"، وفي بيانه كشاهد، قال بينيا بارا إنه أُبلغ بـ "مخاوف" من أن قيمة المبنى كانت أقل مما "اعتقده الفاتيكان في الأصل"، ومن المتوقع أن تنتهي المحاكمة في وقت لاحق من هذا الشهر، ومن المرجح أن يصدر الحكم في وقت لاحق من العام، ومن المقرر أن يختتم رئيس الأساقفة تقديم الأدلة غدا الإثنين.