إذا سألتني عن أحب المدن لقلبي، فلن تصيبني حيرة فإجابتي واحدة وأنا منها أكيدة، دون تردد قد يبدو مكيدة، وبلا تفكير فليس لدي إلا إجابة وحيدة، هي دون غيرها تلك المدينة الهادئة الكريمة، أذوب بها عشقاً واتمنى لو أن يكتب الله لي بها قبراً، فأكون بجوار الحبيب الصادق الفريد الذي ما عرفته الدنيا إلا ليتمم مكارم الأخلاق ويعلي قيم التسامح والمحبة والاخاء، لذا فقولاً واحداً إنها المدينة المنورة تلك الدُرة النادرة التي تحتضن جسد رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم خير ما عرفت البرية.
وبينما نحتفل بمرور الأيام وحلول عام هجري نستقبله بالبِشر والدعوات، نتأمل دروس الهجرة وما لاقاه خير البَشر من عذابات، والعبرة والدرس في خروجه من أرضه مضطراً راغماً ليحفظ الرسالة والحيوات، التي صدقت وآمنت بما أنزل الله عليه من السماوات، لتكن كلمة الكون العليا هي البحث عن السلام أينما كان، ويظل تعريف المسلم أنه من سلم الناس من لسانه ويده، ودون ذلك محض افتراءات.
ودروس الهجرة عديدة، وهي رسالة في حد ذاتها بما تحمله من قيم وقصص ربما هي عن حياتنا ليست بعيدة، وتلك عبقرية الحياة أن وجهها الحَسَن به طابع حُسن يتغير بتغير المواقف والبشر، أما أنيابها فهي ثابتة بعمر الأرض، وسيء خصالها موسوم في وجهها دون حاجة منها للتنكر والانكار ولا للتغيير من أجل الابهار، إنما هو الإنسان من يعشق الشكوى وادعاء الغفلان.
لذا من تلك الدروس دائما ما يلفتني عند الاحتفال بالعام الهجري، فكرة وضع وتطبيق العمل بالتقويم الهجري في حد ذاته، فذلك الحدث له دلالتين على قدر كبير من الأهمية الإنسانية والدنيوية، فالشق الإنساني يتمثل في الفاروق عمر بن الخطاب الذي وضع في عهده التقويم الهجري، هذا الصحابي الجليل الذي صاحب الرسول عليه الصلاة والسلام في رحلته الدعوية، صدقه وصادقه فضرب لنا أروع مثل في معنى الصديق ومواصفات الرفيق والأداب التي يجب أن يتحلى بها كل من يقرر أن يشارك إنسان الطريق، مثله كمثل أبو بكر الصديق الذي رافق الرسول وصاحبه في طريق هجرته، أما الشق الدنيوي هو الانتباه لأهمية ذلك التقويم، وعدم الاتكال على القدرة الربانية في حفظ التاريخ والقيام بالتأريخ، وكانت تلك رسالة هامة أن حتى في الأمور الروحانية فالسبل لن تدرك إلا بالسعي وليس بالأمنيات القلبية والدعوات الخالصة.
فقبل العمل بالتقويم الهجري الذي وضع بعد سنوات من وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كان المسلمون يتبعون التقويم المعتمد على الأحداث البارزة، مثل عام الفيل الذي ولد فيه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلّم، لكن بعد مرور 17 عاماً على هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم، وفي السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل إليه أبو موسى الأشعري أمير البصرة كتاباً يطلب منه البحث عن طريقة جديدة لاحتساب التقويم، حيث جاء خطاب لأبي موسى الأشعري مؤرَخا في شهر "شعبان" دون تحديد السنة، فخاطب الأشعري الخليفة عمر يقول: " يا أمير المؤمنين، تأتينا الكتب، وقد أُرِّخ بها في شعبان، ولا ندري أي شعبان هذا، هل هو في السنة الماضية؟ أم الحالية؟".
عندها جمع الخليفة عمر الصحابة رضوان الله عليهم لاستشارتهم، فاختلفت الآراء، فمنهم من اقترح بأن يؤخذ بتاريخ مولد الرسول عليه الصلاة والسلام كبداية للتقويم، واقترح البعض تاريخ وفاته، إلا أن الرأي الأغلب كان الأخذ بتاريخ هجرته
وبعد أن استشار الخليفة عمر الصحابيين عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب تم الاتفاق على اعتبار السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي بداية التقويم، واختير الأول من محرّم كبداية للسنة، وذي الحجة نهاية لها، ومن هنا بدأ حساب السنة الهجرية من هجرة الرسول والتي صادفت عام 622 ميلادي، لتصبح السنة الأولى في التاريخ الهجري.
أما الدرس الآخر من دروس عديدة في هجرة الحبيب الشريفة، وهو عندما ترك النبي الأمين سيدنا علي رضي الله عنه في مكة المكرمة لسببين، أحدهما من باب التخطيط ليحل محله عليه الصلاة والسلام في فراشه ليخدع المشركين المتربصين به لقتله، وقد كان بالفعل في تلك الليلة التي وافقت خروج الرسول للهجرة أن اجتمع عشر أشخاص من قبائل مختلفة لتنفيذ مخطط قتله، ليتفرق دم خير البشر بين القبائل فلا تتمكن قبيلة بني هاشم من القصاص، ولكن أغشاهم الله عنه وأخرج رسوله أمام أعينهم دون أن يبصروه، وذلك تجلي لإرادة الله التي تكمن فقط بين الكاف والنون.
أما السبب الآخر لبقاء علي أرضاه الله، هو أمر الرسول له بأن يرد الأمانات لأصحابها، أي أن قريش التي تدبر لقتله وتمقت حياته، لم يمنعها ذلك من أن تقر وتعترف بجميل صفاته، وهذا الملفت أن الكُفار في هذا الزمان كانوا أكثر عدلاً وإنصافاً من بعض مسلمي هذا الزمان، الذين نراهم في كل مكان يطلقون حملات التشويه المتعمدة والكذبات المدلسة لخدمة أغراضهم المضللة.
ومن الدروس البديعة في تلك الهجرة التي تعددت أسبابها، وقام بها النبي وهو موجوع القلب على فراق مكة التي هي له الدار ويكِن لها حب الوطن الذي لا يعرفه إلا الأحرار، فجاءت كلمات وداعه لها هي درس في معنى الوطن وقيمة حب الأوطان الذي هو صميم الرسالة وقلب تعاليم الدين، وذلك ما نستشفه من كلماته التي تنطق بألم الفراق "والله إنك لأحب أرض الله إلي، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك قهرًا ما خرجت"، وفى رواية أخرى قيل أنه قال :"اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلى، فأسكني أحب البلاد إليك.."
والثابت في الروايتين حب نبينا الكريم لأرضه ووطنه وتلك مشاعر لا يدركها إلا كل ذو قلب سليم، لا يرى أن الحدود هي حفنة تراب فذلك تفكير اللئيم، هوى وعشق وألم كلماته بهم ناطقين، لكن ذلك لم يُنسي الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يضلل بوصلته ويعطل عقله أو يقصيه عن أداء مهمته بكل همته، فجاءت دروس التخطيط للهجرة دروس يجب أن تكون دستور حياة لكل البشر بالفطرة.
وأولها الحرص على السرية واختيار التوقيت الذي يضمن نجاح العملية، اعقب ذلك توزيع الأدوار والمهام بحرفية ومنطقية دون موالاة لأهل حظوة أو تبعية، وما لزم ذلك من ترتيب الاحتياجات اللوجيستية دون لفت انتباه العصابة المفترية، وبالطبع ما سبق ذلك من اختيار المكان المُهاجر إليه عن طريق ما نعرفه اليوم بتحليل البيانات وذلك بدراسة الأمر أمنيًا واقتصاديًا وجغرافيًا ومعنويًا.
وكما لا يخفى على أحد أن دروس الهجرة بلا عدد، لكن سيظل الدرس الأقرب لقلبي هو تلك الرسالة المنطوية تحت جلال الهجرة البهية، وهي أن أحيانا قد تكون أصح الخيارات البشرية أن نفارق ما نحب ونحن بكامل قوانا العقلية وقدرتنا البدنية، ومهما تسبب ذلك في متاعب قلبية، فليس كل القُرب ود، ولا كل البعد صَد، فهناك قدر لعبته أن يكون الضِد، ويلعب دور الخِصم لأحلامنا وأمنياتنا وطاقتنا التي يستنزفها البقاء في محراب أفكار لم يأذن الله لها ولنا باللقاء، لذا فالرحيل قد يكون نجاة.. أو ربما هو موعد مع الحياة.. ولا سيما أن تكون تلك المناجاة التي يأن بها قلبك حُزناً، هي سيد عملك وعظيم أملك في أن يعفو الله عنك، ويبدل لوعتك بقدرته وعفوه في طرفة عين، ويذهب ما ألّم بِك من هم ويصرف ما أُحطت به من غَم، وما عليك إلا أن تتشبث بالسعي والأمل واليقين.
نحتفل بمرور 1446 عام على هجرة الرسول ولازلنا نتعلم منها الدروس الحياتية والروحانية التي لا تزول، وتصلح لكل زمن دون أن تذوى أو يصيبها الذبول، ودون أن ينتزع بريقها مضي الأيام وتعاقب السنون، وفي جنبات المدينة المنورة فالحكايات لازالت طازجة ومقدرة، تجوب شوارعها فترى الحبيب أمامك فمن هنا مرّ وهنا سجد وهناك أقام مقامك، فالصلاة في مسجد قباء يقشعر لها البدن، فهنا يا حبيبي كان أول موطأ قدم للأمان، وأنك يا شفيعي الآن بعيداً عن مكر عُباد الدنيا وياليتهم أدركوا أن من اتخذها غطاءً فهو عريان.
تمضي للحرم النبوي فإذا بالسماء تضوي، تقبل على صحنه والدم يجري في عروقك وكأنك تعدو فوق حنينك ورجائك وتخطو فوق عظيم كمدك وآلامك، تذهب وجلاً وحالك ينطق شوقاً وولعاً وحباً وطمعاً في سجدة بقرباته تقرأه فيها السلام وتبلغه أن القلب يهفو لشربة من بين يداه الكِرام بعدها ننسى ونسامح ما مر بنا في تلك الدار من هوان.
في جنبات المدينة المنورة تشعر أن الطير والحجر، والنبات وعيون البشر تردد تلك الترنيمة الرقيقة "طلع البدر علينا مـن ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع، أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع، جئت شرفت المدينة، مرحباً يـا خير داع، قد لبثنا ثوبَ عزّ بعد تمزيق الرِّقاع، ربَّنا صلِّ علي من حلَّ في خير البِقاع".. فهكذا قيل أن أهل المدينة استقبلوا النبي الكريم عند دخوله المدينة، وهذا هو الثابت أن هذا النشيد التراثي الإسلامي يعكس مدى محبة أهل المدينة المنورة وسماحتهم ورقة قلوبهم التي يلمسها كل زائر لتلك البقعة المباركة، وإن اختلف المؤرخون على تاريخ النشيد ومناسبته هل هو في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم عند الهجرة أم بعد عودته من غزوة تبوك!
وذلك الاختلاف لن يفسد للشوق وداً، ولن يمنع عن عمق ودفء تلك الكلمات معنى، لذا في تلك الذكرى العطرة، نجدد الاستفادة من دروس الهجرة، ويتعالى أنين القلب من الشوق لقربك يا حبيبي فرفقا بي يا قلبي فلم يحن موعد اللقاء ومن يدري لعله قريب وتلك أغلى أمنياتي يا الله فضلاً وكرماً ولطفاً استجيب..
أهديك السلام يا خير الأنام، واستحلفك بخير الأيام أن تدعو لنا الله أن يخرجنا من تلك الدار المليئة بالأحزان، بعد أن ساد الظلم وتسيد البغض فأصبح الجحيم هو الأرض، التي ظلمها إنسان لم يتذكر أنه فان.
كل عام ونحن بخير، ولتمر السنون بذات النمط المتسارع المجنون، وكل ما نتمناه هو ألا نترك إلا أثر من الرحمة وبشائر السلام ونسائم المحبة قبل أن تطوينا صفحات النسيان، إلهي اجعل شفائي وجزاء صبري أن تجمعني بنبيك الكريم واتطلع إلى وجهك ياربي العظيم، يوم لن يبقى غالي ولا عزيز إلا حبك والشوق لقربك ولذة ظلك التي لن نبلغها إلا بعفوك وكرمك وواسع رحمتك، ربنا أكتب لنا صُحبة نبينا رسولك الهين اللين الرحيم، الضاحك القوي الأمين، الجميل الذي ابتلى فما بلى، وكان صابراً رابطاً رابضاً لحزنه كما لأعدائه.. فصلوا عليه وسلموا تسليماً كثيراً، وأمانة من يلقاه قبلي ليبلغه شوقي ونار قلبي التي انتظر بها صحبته الرحيمة ورفقته الكريمة، حبيبي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم بعدد ما كان وما سيكون.