أخبرته أنني لن أستطيع مجاراته هذه المرة, فالتل الرملي أعلي من ستين مترا,وتسلقه يقتضي حركة أقدام سريعة تتجنب الغوص في رماله الحمراء الناعمة, ويكفي أنني فرغت لتوي و بعد خمس ساعات من السفر علي طريق أسفلتي من اعتلاء تل بنصف هذا الارتفاع.
-لم تكن نبرتي المحتجة كافية لتثني مارك بأعوامه الخمس والسبعين عن ممارسة هوايته وقت الغروب, ليملأ عينيه علي قمة التل بانعكاسات الضوء علي الأفق وكثبان صحراء "سوسوفليه"الناميبية الحمراء؛فبعض الجهد يهيئ الروح للإنطلاق و الحواس للإنغماس، والطبيعة البكر في تلك المحمية ينشدها السياح من أقاصي الأرض.
وهكذا رأيت مارك يتحول تدريجيا الي نقطة متحركة أعلي التل,ثم يعود بمزاحه اللطيف لإستكمال قيادة السيارة رباعية الدفع الي مخيم يأوينا.
-يخلد كثيرون في مثل سن مارك الي حياة الراحة و روتين يومي يتراوح بين تفاصيل الأشياء و سيرة الأبناء و ذكريات العمر و لقاءات النوادي و المقاهي و الحديث عن متاعب الصحة و تقلبات الأحداث,فما الذي دفع مارك و زوجته كارلا الي ترك رفاهية فيينا و تراثها الثقافي و الموسيقي ليعيشا بنظام سياحة الإقامة في ناميبيا؟ و لماذا كل ذلك الترحال في افريقيا؛في الصحراء الكبري و الغابات الإستوائية,و بين مساقط الأنهار ووعورة الجبال؟لماذا المخاطرة مع إحتمالات المرض و أعطال السيارة وإمكانيات التعرض للسطو أو مهاجمة حشرات و حيوانات شرسة و فتاكة؟
-السيارة البيضاء تكتسح طريق العودة الممهد,تتعجل إكتشاف كل المناظر و الألوان و تجدد الأفق قبل أفول الشمس,تبدو كمصفحة ينقصها مدفع,و تعلوها شبكة تصلح للتحميل أو كقاعدة خيمة تبعد ساكنيها عن بلل الأمطار و فضول الحيوانات في الغابات الإستوائية و الصحراوات المدارية,و الزوجان حشراها بمعدات التخييم وحاويات الطعام و الشراب بترتيب دقيق و كامل وفق روتين معتاد.
- بعد عشاء صحي و خفيف إستجابت كارلا لفضولي,فكانت المفاجأة ان القصة بدأت بها....طفلة صغيرة تري علي صفحات الجرائد صورا لملوك و مستكشفين أوروبيين في مجاهل افريقيا...و مغنية أوبرا شابة تتساءل عن جدوي رفاهية يعتقدونها في حياة المدن إذا ما إتسم إيقاعها بالتوتر و التعجل, و إذا ما جلب الأمان و الراحة لسكانها إستمراء الإستسهال و الشكوي من صغائر الأمور,و إذا ما تغذي الإعلام علي اخبار الكوارث و الجرائم و الفضائح و الحروب؟
-السلبيات خانقة,و الروح تتطلع إلي ما هو أرحب,الي إتصال بالطبيعة و الكائنات يفتح للحواس الاّفاق,الي تواصل مع النفس يتحقق مما هو ضروريات و يستكشف مجاهلها كما لو كانت قارة بكر,الي تحرر من كماليات ألفناها فوقعنا أسري للإحتياج و لإستضعاف يثمر الشقاء و الشكوي,الي حياة بعيدة عن الصخب و الزحام المشتت لسكينة النفس,الي علاقات بسيطة تلقائية تبقي الذهن نقيا متفائلا و الروح صافية,الي حياة نشطة تقوي الصحة و تثير الشعور بالإنتعاش,الي مغامرات تشفي الفضول,و تحرر النفس من الهواجس و المخاوف,و تقوي الثقة,وتسعد بالإنجاز.
-في الأجازات السنوية الخيال يصبح حقيقة في رحلات سياحية منظمة للصحراء الكبري.الصحراء مهرجان مفتوح للأوان و الأضواء و الإنعكاسات علي أشكال حجرية و رملية متجددة سيريالية النزعة.
إتساع الأفق يخرج المرء من هموم العقل الضيق و هواجس الذات,و الطبيعة الخشنة توحي بأن القليل يكفي و أن الإنسان قادر علي الكثير. معرفة طبائع الحيوان و بساطة إجراءات التأمين تزيل حواجز الخوف و تدفع للتفهم و التراحم.
-في المخيمات علي قمم تلال الصحراء تمتعت كارلا بصوت السكون و إيقاع الريح و تغريد الطيور و تألق النجوم و صفاء السماء و إنتعاش الهواء بما يفوق متعة الفنادق الفاخرة.
-المتعة دفعتها لإستكشاف المزيد و الخروج عن المسارات السياحية المعتادة,فبدات تنظم رحلاتها الخاصة بمجموعات صغيرة,و إمتدت الجولات لتغطي الصحراوات و الغابات بعد الزواج من زميلها مغني الأوبرا مارك الذي شاركها نفس الإهتمام بالترحال في القارة السمراء و دعوة الاصدقاء لمشاركتهم في الجولات خاصة بعد التقاعد الذي اتاح زمنا وفيرا للتعرف علي شعوب و دول القارة.
-كان طبيعيا أن يتعرض الزوجان لبعض الماّزق و الأمراض فيما يزيد عن ثلاثين عاما من الترحال,و لكن ذلك إعتبراه من طبائع الأمور حتي في حياة المدن, و التغلب عليها يحرر النفس من الخوف منها,و يؤكد ان كثيرا من الأنماط الفكرية السائدة مبالغات اساسها هواجس و توترات نفسية.
-إختار مارك و كارلا في النهاية العيش في منزل عصري مريح بعاصمة ناميبيا,يطل بحديقته علي مشهد طبيعي جميل,و زيناه بمفروشات و حلي افريقية تشهد علي حياة حافلة بالذكريات. و يعتقدان في مرحلتهما العمرية أن سر ذلك النشاط و الحيوية الباهرة إهتمامهما بالصحة الغذائية وممارسة الرياضة اربعين دقيقة يوميا و متانة علاقتهما وإشتراكهما في نفس الإهتمامات.
-حياة مارك و كارلا مسيرة للتحرر و الإستكشاف,تعلي إرادة الإنسان,و تجسد حب الحياة,و تثبت أن الصحة و السعادة إختيار متجدد مهما تقدم العمر,و أن الوعي بالذات طريق لإيجاد أسلوب الحياة المناسب و الوصول لسكينة الروح و صفاء السريرة.
-إذا اردت الحياة بحق ففي الكون متسع للجميع.