حقق حزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف، تقدما قويا أمس الأحد، فى الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في فرنسا، وجاء ذلك متوافقا مع توقعات وكالات استطلاع الرأى السابقة لعقد الانتخابات، وهى النتائج التى تقرب الحزب من القدرة على تشكيل حكومة في الجولة الثانية، إذا ما استطاع أن يحصل على الأغلبية المطلقة، وتلك نتائج توجه صفعة قوية للرئيس الوسطي إيمانويل ماكرون وقراره المحفوف بالمخاطر بالدعوة إلى التصويت المفاجئ.
فعندما قام بحل الجمعية الوطنية في التاسع من يونيو، بعد هزيمة قاسية على يد حزب التجمع الوطنى الفرنسى فى التصويت لصالح البرلمان الأوروبى، راهن ماكرون على أن الحزب المناهض للهجرة، والذى له روابط تاريخية بمعاداة السامية لن يكرر هذا النجاح عندما تقوم فرنسا بحل الجمعية الوطنية، ولكن يبدو أن تلك المراهنة ليست على مستقبله السياسى لشخصه أو حزبه، ولكنه رهان على مستقبل فرنسا بأكملها.
انفجار سياسى فى وسط باريس
وبحسب تحليلات كافة الصحف العالمية، فإن فرنسا تستعد لانفجار سياسي كبير بعد أن حقق حزب التجمع الوطنى بزعامة مارين لوبان مكاسب هائلة أمس الأحد فى الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكرة، والآن أصبح الدور القيادى الذي تلعبه البلاد في الاتحاد الأوروبى ومنظمة حلف شمال الأطلسى، فضلاً عن الاقتصاد الفرنسى على المحك.
وجاءت تفصيلات هذا الانفجار الذى هز أركان باريس وفقا لنتائج الجولة الأولى، وتلك أهم النقاط المستفادة منها على النحو التالى:
- جاء حزب التجمع الوطني في المركز الأول بنسبة 33% من الأصوات وتحسن في نتيجته التاريخية بالفعل في الانتخابات الأوروبية، وأصبح الفوز بالأغلبية المطلقة الأسبوع المقبل فى متناول اليد حيث يتقدم الحزب في 297 دائرة انتخابية، ولكن لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان بإمكانها الفوز بكل هذه التحديات.
- تكبد تحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الوسطي خسائر فادحة، حيث جاء في المركز الثالث بحصوله على 20% من الأصوات.
- حقق التحالف اليساري أداء قويا بحصوله على 28% من الأصوات، لكن من غير المرجح أن يكون في وضع يسمح له بتشكيل الأغلبية.
المحاولة الأخيرة .. ماكرون ورقصة الموت
وفى صرخته الأخيرة التى أطلقها ماكرون عقب الإعلان عن نتائج الأمس، خرج ليرقص – وهو الشهير بفيديوهات الرقص فى سبابه – رقص الموت السياسى الأخيرة، حيث حذر ماكرون من أن فرنسا قد ينتهى بها الأمر بأول حكومة يمينية متطرفة منذ الحرب العالمية الثانية إذا لم يأت الناخبون، معا لإحباط هذا السيناريو في الجولة الثانية يوم الأحد المقبل، فيما قال رئيس الوزراء غابرييل أتال: "إن اليمين المتطرف على أبواب السلطة"، ووصف مرتين تعهدات سياسة التجمع الوطني بأنها كارثية، وقال إنه في الجولة الثانية من الاقتراع، لا ينبغي أن يذهب صوت واحد إلى التجمع الوطني، فرنسا لا تستحق ذلك، وما يرعب زعماء فرنسا.
وفى إطار اتخاذ الإجراءات العملية لمحاولة انقاذ الموقف، أوضح التحالف اليساري للجبهة الشعبية الجديدة بعد نتائج الانتخابات أمس، أنه سيسحب المرشحين الذين جاءوا في المركز الثالث لصالح أى مرشح وسطى قد يكون في المركز الثانى، فى محاولة لعرقلة اليمين المتطرف، التجمع الوطنى، ومع ذلك، ليس من الواضح ما الذى سيوصى به المعسكر الوسطى للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فيما قال ماكرون مساء الأحد: "لقد حان الوقت لجبهة ديمقراطية وجمهورية واسعة وواضحة لقتال التجمع الوطني في الجولة الثانية – لكنه لم يعط أى إشارة واضحة بشأن الانسحابات.
وفي غضون ذلك، دعا رئيس الوزراء غابرييل أتال مرشحي معسكر ماكرون الوسطي الحاصلين على المركز الثالث إلى سحب ترشيحاتهم في الجولة الثانية لمنع صعود اليمين المتطرف، ولكن رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب، الذي يعد أيضًا جزءًا من ائتلاف ماكرون الوسطي مع حزبه "آفاق" الذي ينتمي إلى يمين الوسط، دعا الناخبين في الجولة الثانية إلى عدم التصويت لا لليمين المتطرف ولا لحزب "فرنسا غير المربوطة" اليساري المتطرف - والذي يعد جزءًا من التحالف اليساري للجبهة الشعبية الجديدة.
لوبان وحلم الأغلبية المطلقة
ويعد تأمين الأغلبية البرلمانية من شأنه أن يمكن زعيمة التجمع الوطني مارين لوبان من تنصيب تلميذها البالغ من العمر 28 عامًا، جوردان بارديلا، كرئيس للوزراء، وسوف يتوج جهودها التي استمرت لسنوات لإعادة صياغة هويتها لجعل حزبها أقل نفورًا من الناخبين التقليديين، وقد ورثت الحزب، الذي كان يسمى آنذاك الجبهة الوطنية، من والدها، جان ماري لوبان، الذي أدين عدة مرات بتهمة خطاب الكراهية العنصري والمعادي للسامية.
ومع ذلك، فإن التجمع الوطني لم يصل إلى هناك بعد، ومع اقتراب أسبوع ساخن آخر من الحملات الانتخابية قبل التصويت النهائي الحاسم يوم الأحد المقبل، تظل النتيجة النهائية للانتخابات غير مؤكدة، وفي كلمتها أمام حشد مبتهج يلوح بالأعلام الفرنسية ذات الألوان الثلاثة الأزرق والأبيض والأحمر، دعت لوبان أنصارها والناخبين الذين لم يدعموا حزبها في الجولة الأولى إلى دفعه إلى ما هو أبعد من الخط ومنحه أغلبية تشريعية مسيطرة، وقالت لوبان: "لقد قضى الفرنسيون تقريباً على الكتلة الماكرونية"، وأضافت أن النتائج أظهرت "استعداد الناخبين لطي الصفحة بعد 7 سنوات من السلطة الاحتقارية والمتآكلة".
سيناريوهات مخيفة .. لن أتنحى ومستمر لـ2027
وفى حال فوز اليمين المتطرف بالأغلبية، فمن شأن هذا السيناريو أن يجبر بارديلا وماكرون على اتخاذ ترتيبات غريبة لتقاسم السلطة، ولكن قال ماكرون، الذي انتخب لأول مرة في عام 2017، إنه لن يتنحى قبل انتهاء ولايته الثانية في عام 2027، فبعد أن جاءت مقامرته الانتخابية المبكرة بنتائج عكسية، يواجه إيمانويل ماكرون خيارا مؤلما للغاية، فإما سحب مرشحيه لمحاولة وقف اليمين المتطرف، أو محاولة إنقاذ ما تبقى من حركته التى كانت مهيمنة ذات يوم قبل أن تموت.
والآن أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا والقوة الوحيدة المسلحة نوويا في الاتحاد الأوروبي الآن أقرب من أي وقت مضى إلى تشكيل حكومة يمينية متطرفة للمرة الأولى، وإذا أسفرت الجولة الثانية من التصويت في السابع من يوليو عن أغلبية برلمانية للتجمع الوطني ــ وتشير التوقعات إلى أن هذا ممكن ــ فإن فرنسا ستكون في مياه مجهولة: سوف يحكم البلاد، جزئيا على الأقل، سياسيون صنعوا أسماءهم من التعاطف مع فلاديمير بوتن في حين تعهدوا بتمزيق الاتحاد الأوروبي، وشن حرب على الهجرة والانسحاب من حلف شمال الأطلسي، ورغم أن حزب لوبان خفف بعض مواقفه المتشددة، فإنه يظل متشككا بشدة في المواقف السياسية السائدة في الغرب، ومن شأن الفوز في هذه الانتخابات أن يعطي دفعة قوية لفرصها في الفوز بالرئاسة الفرنسية في عام 2027.
ويقول برونو كوتر، المحلل السياسى في معاهد العلوم السياسية لصحيفة بوليتكو الأمريكية: "يمكننا القول بوضوح إن عملية إزالة السموم من التجمع الوطني وصلت إلى مراحلها النهائية، فقد فازوا في الانتخابات الأوروبية ثلاث مرات متتالية، ووصلت مارين لوبان مرتين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية"، وأضاف: "إذا فازوا في ثاني أهم انتخابات في فرنسا (الانتخابات البرلمانية)، فسيصبحون التيار السائد".
وبحسب تحليلات معهد إيبسوس لاستطلاعات الرأي، فإن النتائج المتوقعة لحزب لوبان تجعله على مسافة قريبة من السلطة، فقد حصل حزبها على 33.2% من الأصوات في الجولة الأولى، وهو ما يعني أن اليمين المتطرف قد يحصل على ما بين 230 و280 مقعدا في البرلمان، وفقا للمعهد.
وأشارت بعض توقعات وكالات الاقتراع إلى أنه في أفضل السيناريوهات بالنسبة لليمين المتطرف، يمكن لحزب التجمع الوطني وحلفائه بشكل جماعي تجاوز حاجز 289 مقعدًا اللازم لتحقيق أغلبية آمنة في الجمعية الوطنية المكونة من 577 مقعدًا.
ما التطرف والتضخم.. فرنسا والرعب من المستقبل
وتعد نسبة المشاركة المرتفعة - على الأقل 66%، وفقًا لتقديرات استطلاعات الرأي - عكست ما يقرب من ثلاثة عقود من تراجع اهتمام الناخبين بالجولة الأولى من الانتخابات التشريعية فى فرنسا، فتصويت هذا العدد الكبير من الناس، خاصة وأن الكثيرين يستعدون لبدء العطلة الصيفية التقليدية أو بدأوها بالفعل، أظهر كيف أن الحملة السريعة ورهاناتها العالية حفزت الناخبين، ورأى العديد من الناخبين فرصة لفرض حكومة على ماكرون، وتوبيخ رئاسته وفرض تغيير في المسار.
ولكن الآن وبعد نتائج الأمس، يشعر العديد من الناخبين بالرعب من المستقبل، وفى ذات الوقت، يشعر بالإحباط من التضخم وغيره من المخاوف الاقتصادية، وكذلك من ماكرون، ولذلك استغل التجمع الوطني هذا السخط، ولا سيما عبر منصات الإنترنت مثل تيك توك، وقد شن حملة مكثفة على ارتفاع تكاليف المعيشة والهجرة.
وشاب الحملة خطاب الكراهية المتزايد، وبحسب صحيفةNPR الامريكية، تقول سينثيا جوستين، 44 عاماً: "الناس لا يحبون ما يحدث، ويشعر الناس أنهم فقدوا الكثير في السنوات الأخيرة، الناس غاضبون. أنا غاضب"، وأضافت: "لأنني امرأة سوداء، فإن الأمر أكثر أهمية، فهناك الكثير على المحك في هذا اليوم".
وقد شكك التجمع الوطني في حق المواطنة للأشخاص المولودين في فرنسا، ويريد الحد من حقوق المواطنين الفرنسيين الذين يحملون جنسية مزدوجة.
ويقول المنتقدون إن هذا يقوض حقوق الإنسان ويشكل تهديداً للمبادئ الديمقراطية الفرنسية، وفي احتفال الانتخابات في معقل لوبان في هينان بومونت، قال إدوارد جيليبوت البالغ من العمر 41 عاما إن نجاح اليمين المتطرف كان متوقعا منذ فترة طويلة، وأضاف: "هذا انتقام من الشعب ضد النخب في وسائل الإعلام والسياسة، وأنا من أولئك الذين صوتوا للجميع، لقد كذبوا علينا بإخبارنا أن الهجرة فرصة للبلاد".
وتلك المشاعر المتناقضة هى الرعب الذى صدرته انتخابات الأمس، والذى يعبره كرة النار التى من الممكن أن تشتعل داخل فرنسا، وتنتقل إلى أكران القارة العجوز، والمخاوف شديدة أن تتحول الجولة الثانية إلى سحاة حرب قد تشهد اشتباكات، والعالم أجمع الآن فى حالة ترقب وحبس الأنفاس لما ستسفر عنه الأيام القليلة القادمة الفاصلة عن الأحد المقبل.