قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

صدى البلد

منال الشرقاوي تكتب: هاشم النحاس وأفلامه التسجيلية

×

في أروقة السينما التسجيلية المصرية، يسطع اسم هاشم النحاس كرمز يعبر عن الانتقال من التوثيق البسيط إلى التحليل العميق للواقع الاجتماعي والثقافي بأسلوب فني متقن، ولأن الفن يسعى دوماً إلى تحقيق التواصل والتعبير العاطفي، فإن هاشم النحاس، ببراعته الفنية وبصيرته النافذة، استطاع أن يجعل من السينما التسجيلية في مصر منارة تضيء الفكر بأسلوب يجمع بين الدقة العلمية والإبداع الفني. هو ليس مجرد راصد للأحداث، بل محلل لها ومفسر يستنطق الواقع ويكشف النقاب عن مكنوناته، فتكون الكاميرا بمثابة العين الثاقبة التي لا ترصد الظاهر فحسب، بل تنفذ إلى الجوهر.


لقد أبدع النحاس في رسم صورة واضحة لمجتمعه، مستخدمًا الكاميرا ليس فقط كأداة لتوثيق اللحظة، بل كقلم يسطر الأحداث ويحلل الظروف ويبرز العلاقات الإنسانية في أدق تفاصيلها. إن تجربته في السينما التسجيلية قدمت لنا، ولا تزال، نموذجًا يحتذى به في كيفية تفاعل الفن مع الواقع وتأثيره في النفس والوجدان،هذا النهج يجعل من أفلامه مدرسة قائمة بذاتها، تعلمنا كيف يمكن للفن أن يكون أداة للفهم والتغيير.


يُعد كتاب "هاشم النحاس وأفلامه التسجيلية" للكاتب رامي عبد الرازق، دراسة رائدة تبحر في عالم السينما التسجيلية من خلال عدسة أحد أبرز مبدعيها، هاشم النحاس. ينقل الكتاب القارئ إلى تفاصيل غنية من حياة النحاس وأعماله، مستعرضاً إسهاماته الكبيرة في تطوير هذا النوع من السينما في مصر.


هاشم النحاس، كما يعرضه عبد الرازق، لم يكن مجرد مخرج يسعى لتصوير الواقع، بل كان فنان يهدف إلى إحداث تأثير وتغيير من خلال أعماله. استخدم النحاس الكاميرا كأداة للكشف عن تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، ممزوجة بنقد اجتماعي وثقافي عميق، فاستطاع أن يجعل من السينما التسجيلية منبرًا للتعبير عن القضايا الإنسانية بأسلوب يجمع بين الجمالية والرسالة الهادفة.


وُلِد النحاس في القاهرة، وبدأ اهتمامه بالسينما في سن مبكرة. درس في المعهد العالي للسينما ، حيث تأثر بالنقد الأدبي والفلسفي، وهو ما شكّل رؤيته السينمائية فيما بعد.


اعتمد النحاس على البساطة والدقة في نقل الصورة الواقعية، مع تركيزه على التفاصيل الصغيرة التي تضيف عمقاً إلى مشاهده. استخدم الموسيقى التصويرية والصوت بطريقة مبتكرة، ليضفي جوًا دراميًا على أفلامه التسجيلية، مما جعلها تتجاوز كونها مجرد وثائق بصرية إلى أعمال فنية غنية بالتفاصيل والمشاعر. يُظهر عبد الرازق كيف أن النحاس كان يعتمد على تقنيات تصوير مبتكرة لجعل الجمهور يعيش اللحظة دون تزييف، فالاستخدام الدقيق للضوء، الزاوية، والتكوين، كلها كانت تخدم غاية النحاس في جعل كل مشهد ينقل عمق القصة التي يريد سردها.


من خلال النظر إلى بعض أفلامه البارزة ، مثل "النيل أرزاق" ،"ناس يوليو"،"خيامية" و"الناس والبحيرة"، يتم تقديم رؤية النحاس كمرآة للمجتمع المصري، فهذه الأفلام لم تكن مجرد توثيق للأحداث، بل كانت تلامس قضايا اجتماعية مهمة من الفقر والهجرة إلى التقاليد والطبقية، وإنصاف حضور المرأة كما جاء في فيلمه "شوا أبو أحمد"، فتعدد هذه القضايا ، سمح للمشاهدين برؤية حقيقية وغير مزيفة للتحديات التي تواجهها البلاد، فقد كيف النحاس استخدم الكاميرا كأداة لتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي في مصر، مع إبراز الجانب الإنساني في كل قصة يوثقها.


"هاشم النحاس وأفلامه التسجيلية" ليس مجرد تأريخ لحياة مخرج، بل هو دراسة معمقة لكيفية تفاعل الفن مع الواقع. يُلقي رامي عبد الرازق الضوء على البصمة العميقة التي تركها هاشم النحاس في رحاب السينما التسجيلية عبر ربوع مصر وامتداداً إلى العالم العربي بأسره، وكيف حظي النحاس بتقدير واسع النطاق، فازدانت مسيرته بجملة من الجوائز والتكريمات المحلية والدولية. لعل من أبرز إنجازاته إنشاء مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، الذي نبت كبذرة خصبة في أرض السينما، وأثمر منصة داعمة وحاضنة لهذا النوع الفني الرفيع.


لقد جمع هاشم النحاس في شخصه براعة فنية وبصيرة نافذة مكنته من تصوير الحياة بعمقها وتفاصيلها. لم يكن النحاس مجرد صانع أفلام، بل كان فنان يستخدم الكاميرا لكشف الحقائق وتسليط الضوء على جوانب الحياة المختلفة. علمنا كيف يمكن للفن أن يكون مرآة صادقة للواقع، وأداة لفهم الإنسان ومشاعره، وتحليل المجتمعات وقضاياها. أرسى قواعد جديدة في السينما التسجيلية، وجعل من الكاميرا وسيلة للتغيير والإصلاح. إرث هاشم النحاس ليس مجرد أفلام، بل هو رمز للفن التسجيلي الذي يحاكي الواقع ويجمع بين الرسالة الاجتماعية والإبداع السينمائي، فمن خلال أفلامه، يثبت أن الفن ليس مجرد وسيلة للتعبير الشخصي بل هو قوة تحفيزية تدفع المجتمع نحو التفكير والتفاعل. الفن التسجيلي، كما عُرض من خلال عيني النحاس، لم يسلط الضوء على الأحداث فحسب، بل استطاع أن يجسد الواقع بكل تعقيداته، مقدمًا لنا زوايا رؤية متعددة تتيح فهمًا أعمق للقضايا الإنسانية التي تشغلنا. وبذلك، لا يعتبر النحاس مجرد مخرج بل هو مؤرخ ومعلم، يقدم دروسًا في كيفية رؤية العالم من حولنا. نجاحه في تحويل السينما التسجيلية إلى منصة للحوار والنقاش المجتمعي، يعيد تعريف الدور الذي يمكن أن يلعبه الفنانون في إحداث التغييرات الاجتماعية والثقافية، فكل فيلم لهاشم النحاس هو رسالة موجهة لضمير الإنسانية، تنادي بالعدالة وتؤكد على أن الصدق الفني هو أقوى الرسائل، وأن الفنان الحقيقي هو من يجعلنا نرى ليس فقط ما أمامنا، بل ما وراءنا وما هو آت، فالأفلام ليست مجرد عروض بصرية، بل هي دعوات للفهم والتغيير.