لا يحتاج المشهد العالمى لخبراء أو متخصصين لفك طلاسم وغيوم الواقع، وتحديدا ما يدور حاليا من حرب شاملة بين روسيا والغرب، فنحن نعيش أجواء حرب مختلفة فى طبيعتها، فهى مزيج ما بين المعارك السياسية المميتة، وفى ذات الوقت عودة أجواء الحرب الباردة بكافة أشكالها، وفى خضم تلك المعركة، قرر الزعيم الروسى أن يعيد إحياء التحالف الستالينى البائد، والذى يضم حلفاء الشيوعية السوفيتية، وبعيدا عن الصين التى ظلت وفية للدب الروسى بكافة الطرق، فإن بوتين استهدف خلال أسبوع واحد فقط كانت التحركات بتلك الحرب تشمل كوبا وكوريا الشمالية.
[[system-code:ad:autoads]]
فمنذ أسبوع، وتحديدا يوم الأربعاء الماضى، أرست موسكو السفن البحرية الروسية، بما في ذلك غواصة تعمل بالطاقة النووية، إلى كوبا في إشارة إلى تعزيز العلاقات بين الحليفين في الحرب الباردة، ثم تأتى الزيارة التاريخية التى قام بها الرئيس الروسي فلادمير بوتين إلى كوريا الشمالية أمس الثلاثاء، وهى التحركات التى وصفها تقرير تحليلى لصحيفةNPR الأمريكية، بأنها عودة لـ«التحالف الستالينى البائد»، وتأتى تلك التحركات بالتوازى مع الحرب الضروس المشتعلة على أرض القارة العجوز فى أوكرانيا.
[[system-code:ad:autoads]]
المشهد يتغير بعد 35 عاما
وخلال تحليل الصحيفة الأمريكية، والذى صاغه سيرجي رادشينكو، أستاذ ويلسون إي شميدت المتميز في مركز هنري أ. كيسنجر للشؤون العالمية، والصادر له مؤخرا كتابه الجديد بعنوان: "إدارة العالم: مسعى الكرملين في الحرب الباردة للحصول على قوة عالمية" في شهر مايو، كان هناك رصد لتغير المشهد بين الواقع الحالى، وبين ما حدث منذ 34 عاما، وذلك حين تخلت روسيا فى ثوبها الجديد حينها بالتخلى عن كوريا الشمالية لصالح عدوتها اللدود كوريا الجنوبية.
وتسرد الصحيفة حين سافر وزير الخارجية السوفييتي إدوارد شيفرنادزه في سبتمبر 1990 إلى بيونج يانج حاملاً أنباء الاعتراف السوفييتي الوشيك بكوريا الجنوبية، وقد كان دكتاتور كوريا الشمالية كيم إيل سونج غاضباً للغاية حتى أنه رفض استقباله، واتهم السوفييت بأنهم كانوا يحاولون التخلص من حليفهم السابق مثل زوج من "الأحذية البالية"، ولكنهم لن يحصلوا على ما يريدون، وحينها قال إن كوريا الشمالية لن تتبع طريق ألمانيا الشرقية نحو التفكك وإعادة التوحيد، وبدلاً من ذلك، ستقوم بيونج يانج ببناء قنبلة نووية للتأكد من قدرتها على مقاومة التعديات الخارجية.
وفى ذلك الوقت، تعامل شيفرنادزه مع هذا النقد بخطى سريعة وعدم اهتمام، فمن وجهة نظره كانت كوريا الشمالية دولة استبدادية قاتمة ومفلسة وستالينية، وبدا أن مصيرها إلى سلة مهملات التاريخ، فيما كانت كوريا الجنوبية، المتألقة والصاخبة والمفتوحة، أكثر جاذبية كشريك، ثم يعود الكاتب الأمريكى للمشهد الحالى ويقول: «فإذا أخبر أحد شيفرنادزه أن كوريا الشمالية ستصبح في عام 2024 واحدة من حلفاء روسيا القلائل، وأنها ستساعدها بنشاط في إعادة احتلال دولة مجاورة، فمن المؤكد أنه كان سيعتقد أن الفكرة سخيفة تماما، ومع ذلك، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موجود في بيونغ يانغ هذا الأسبوع، ويعمل جاهدا على بناء محور الطغاة».
شريك على قدم المساواة
ويصف تقرير الصحيفة الأمريكية حفيد كيم إيل سونغ، كيم جونغ أون، بأنه دور المضيف المهذب، فلأول مرة في تاريخ العلاقات المضطربة بين موسكو وبيونغ يانغ، أصبح شريكاً على قدم المساواة، ولم يعد يشعر بالحاجة إلى استجداء الروس، فالآن بوتين موجود هناك لتلبية رغباته، وفي المقابل، يمسك يد العون، وقد كان كيم الجد، في زمنه، خاضعاً تماماً للديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، وكان عليه أن يتوسل إلى ستالين للسماح له بغزو كوريا الجنوبية.
وبعيدا عن الخوض فى تفاصيل التاريخ، فقد كان التحالف الستالينى القوى فى تلك الحقبة، والذى يشمل موسكو مع الصين وكوريا الشمالية، ولكن مع الوقت، لم تعد العلاقة السوفييتية مع كوريا الشمالية أبدًا إلى ما كانت عليه في عهد ستالين، ومالت بيونغ يانغ إلى جانب الصين في الانقسام الصيني السوفييتي في أوائل الستينيات، وعلى الرغم من أن كيم تشاجر لاحقًا مع الصينيين (قليلون يعرفون أن الدكتاتوريتين خاضتا مناوشة حدودية قصيرة في عام 1969)، فإنه لم ينجرف أبدًا إلى المعسكر السوفييتي، مفضلاً الانضمام إلى الصين.
ومنذ تلك الحقبة كان السوفييت ينظرون إلى حليفهم أحيانًا بالإحباط والانزعاج، إذ كانوا قلقين من أن ثورات كيم المسلحة (مثل استيلاء كوريا الشمالية على السفينة الحربية يو إس إس بويبلو في عام 1968 وإسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية إي سي-121 في عام 1969 )، قد تورط السوفييت، وعندما بدأت العلاقة في الانهيار في أواخر الثمانينيات، لم يذرف أى دموع سوى الستالينيين المتشددين، فيما نظرت بقية روسيا إلى كوريا الجنوبية، ولكن مع عودة أجواء الحرب مع المعسكر الغربى، غيرت موسكو من نظرتها إلى الحليف القديم، واليوم نشهد زيارة تؤكد عمق العلاقة بين البلدين، وعودتها إلى أجواء التحالف القديم، ولكن بشراكة على قد المساواة بين الطرفين.
الغزو الروسى لأوكرانيا كلمة السر
وبحسب تحليل الصحيفة الأمريكية، فقد كان غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022 كلمة السر لتغيير لعبة الكرملين في كوريا، فقد انضمت كوريا الجنوبية إلى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا، مما تسبب في تراجع التجارة الثنائية، وزار الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول كييف في يوليو 2023 لإظهار الدعم للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وفي هذه الأثناء، اكتشف بوتين قيمة وجود جار متشدد مسلح تسليحاً جيداً، وبدأت كوريا الشمالية بتزويد روسيا بالذخيرة التي تحتاجها بشدة للحرب في أوكرانيا، وهو تطور لم يكن من الممكن تصوره من قبل.
وفي سبتمبر 2023، زار كيم جونغ أون الشرق الأقصى الروسي والتقى ببوتين وسط صداقة متجددة، ولم تكن بيونغ يانغ معروفة على الإطلاق بإيثارها: فروسيا تدفع ثمن الإمدادات العسكرية بالوقود والغذاء، ومن الواضح أن كيم مهتم بتقنيات الفضاء والصواريخ الروسية، وفي احتضانه الشامل لـ "رفيقه" الجديد (كما يطلق بوتين على كيم الآن)، فربما يلتزم بوتين بذلك.
تحالف أساسه مناهضة الغرب
ولكن هناك شيء في هذه العلاقة أكثر من مجرد الاعتبارات العملية وحدها. لقد احتضن بوتين كوريا الشمالية لأن نظرة كيم المتشددة المناهضة للغرب تتوافق بشكل جيد مع تحوله ضد الغرب وضد الديمقراطية، وعلى المستوى الخطابي على الأقل، أصبحت روسيا أشبه بكوريا الشمالية على نحو متزايد، ومن المؤكد أن الأمر لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، ويتناقض البذخ الاستهلاكي الذي تتمتع به موسكو بشكل صارخ مع الحرمان المروع من يوتوبيا كيم الاشتراكية، ولكن ميول التقارب التدريجي ملحوظة رغم ذلك، وتقف كوريا الشمالية، التي لا تزال متشددة كعادتها، والتي أصبحت الآن مسلحة نووياً، جنباً إلى جنب مع روسيا في مساعيها العدوانية.
وفي مقالته الستالينية الرائعة التي نشرتها صحيفة رودونج سينمون الناطقة بلسان كوريا الشمالية، تحدث بوتين عن "الشعب الكوري البطل في كفاحه ضد العدو الماكر والخطير والعدواني"، الغرب، والآن أصبح هذا النضال أيضاً سبب وجود بوتن، فقد تغير الكثير منذ اتهم وزير الخارجية كيم يونج نام شيفرنادزه بالتخلص من كوريا الشمالية مثل زوج من "الأحذية البالية" قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، واليوم حين أخرج بوتين هذا الحذاء القديم الملطخ بالدماء من صندوق القمامة وأعاده إلى مكانه.