على الرغم من سعي الإنسان ونضاله المستمر في سبيل الاستزادة المعرفية المستحدثة على الدوام، إلا أننا نجد أن كل المعارف الإنسانية إن لم يكن معظمها حين ترد إلى العقول تشكل عند الوهلة الأولى اصطداماً استغرابياً تارة واستغراقياً تارة أخرى، حيث يمكن احتضان شعور الدهشة الأولى وتجاوزه، ولكن الاستغراب في اتخاذ الموقف الإنساني إذا أي معرفة بناء على المشاعر أو المواقف الأولية المجردة من التفكير المعمق فإن ذلك يطرح الكثير من التساؤلات التي تتلاقى مع عدم منطقية ذلك.
وهنا لا بد لنا من تشكيل فسيفساء ثقافية تغطي بألوانها الزاهية مختلف المجتمعات وتأخذ بيدهم نحو بناء منهجية واضحة تجعل الأفراد أكثر تمكنا وكفاءة في التعامل مع المستجدات المعرفية حتى وإن خالفت الصورة الرتيبة التي تتربى في أدمغتنا منذ زمن بعيد، وليس بأدل على ضرورة ذلك مما نجده اليوم من هرولة متسارعة الخطى وجنونية التكاثر من صور وأنماط تطور وسائل الاتصال الحديثة وتوسع نطاق الواقع الرقمي الذي كان يطلق عليه ولحد يومنا هذا بالعالم الافتراضي، ولكنني أجد أن الدور المنوط به يجعله ملتصقا التصاقا وثيقا بواقع الحياة المعاشة التي لا يمكن الاستغناء عن أدواته فيها وبالتالي فإنه من الظلم نعته بالعالم الافتراضي، ويعرف جيدا ما أقصده كل من اطلع على مستحدثات أدوات الذكاء الاصطناعي ومع توفره من إمكانيات هائلة لم يتخيل الإنسان يوما أن يصل لها، أو يكتشفها أو أن تحل محل القوى الإنسانية التي خُيِّلَ له إنها منوطة بالقوة البشرية فقط لا غير.
وحتى إن استطعنا أن نضع ثقتنا في هذه المسلمة التي تفرضها علينا التحولات التي تحيط في المجتمع الإنساني من كل حدب وصوب، فإنه من الطبيعي توالد غيرها من الأسئلة التي تتحول لاحقا لجدليات وقضايا كبرى تشغل بال المفكرين والمثقفين والفلاسفة حول العالم، فإذا كان من الضروري الإيمان بضرورة الاطلاع على المعارف المنسدلة من عين الواقع الإنساني، فكيف هو الحال بما ورثناه من معارف وأفكار وقناعات باتت تشكل إيماناً ويقيناً راسخاً في وجداننا؟
إن الإجابة على هذا السؤال تبدو مختلفة بعض الشيء، حيث أنها لا تحتاج إلى إجابة وحسب بل لا بد من بناء تمهيد يسمح بفهم الإجابة عليه، وذلك من خلال استخدام آخر المستجدات التي وصل لها العقل الإنساني تطبيقها ثم النظر في مستوى مصداقية الإجابة عن السؤال حيث أن الإنسان في سعيه المستمر لفهم طريقة تطوير العملية العقلية الفكرية وجد أن هناك العديد من الخطوات التي ممكن أن تعزز وترتقي بمستوى التفكير والانتقال به من الطبيعي إلى الأكثر حذقا، وذلك من خلال العديد من الأساليب التي يعتبر حب الاستطلاع، والتأمل، والاختبار، والتساؤل، والتوازن في التفكير بين العلم والفني والمنطقي ونقيضه، الخيال والواقع وغيرها من الأمور التي تعبر المجتمع عن الأساليب التي يمكن استخدامها في الارتقاء بمستوى العقل الإنساني، وبالتالي فين كل ما ورثه الإنسان من معارف وأفكار وثقافات وعادات وتقاليد يمكن إخضاعها للأدوات الجديدة للتفكير والأساليب المكتشفة حديثا مما يعيد الإجابة عن نفس السؤال في كل زمان وكل عصر بطريقة مختلفة وأكثر جدوى في الواقع المعاش وإن اختلفت في مظهرها أو سطحيتها، فإنها بلا شك تبقى محافظة على جوهرها ونواة تكوينها.
وبالتالي، فإن إن الخوض في الحقول المعرفية يأخذ بيدنا نحو مسافات لم نتخيل في يوم من الأيام أن نصل إليها، وفي سبيل التركيز على طبيعة المعرفة والحقول المتصلة بها نجد أننا نلحظ أن كل ما تنتجه القوى البشرية من معارف معرض للقبول المطلق أو الرفض المطلق أو الموقف التوفيقي الذي يقف في المنتصف محاولاً أن يشد الحبل تارة وأن يرخيه تارة أخرى، وهو الأمر الذي لا يمكن اعتباره سلبيا أو إيجابيا بالمطلق، بل أنه مرحلة انتقالية نحو معرفة جديدة تفرض نفسها رغما عن كافة المواقف، حتى تلك التي اتخذت من البداية قرارا برفض كل ما هو جديد، في الحياة تتكئ على عجلة من الحركة حتى أصبحت هذه الحركة هي سنة الحياة والثابت فيها سواء شئنا أم أبينا ذلك.