اجابت دار الافتاء المصرية عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"حكم الأضحية عن الميت؟ فقد توفي جدي السنة الماضية وكان قد تعوَّد على التضحية كلَّ سنة؛ فهل يجوز لنا أن نشتري من تركته عجلًا كما تعود ونضحي به عنه؟".
لترد دار الافتاء موضحة: ان الأضحية عن الميت مشروعة، وتكون في مال القائم بها على سبيل الاستحباب والتبرع لا الوجوب، لكن إذا أوصى الميت بالتضحية في حياته أو كان نذر وأوصى بالوفاء به بعد موته، فإنه يدخل حينئذٍ في ثلث الوصايا واجبة الأداء، ويلزم ورثته حينئذٍ الوفاء به في حدود هذا الثلث، وما زاد عليه لا ينفذ إلا في حقِّ من أجازه، أما إذا لم يكن قد أوصى به، فإنه لا يلزمهم الوفاء به، لكن يستحب لهم أن يتبرعوا بذلك عنه؛ وفاءً للمورِّث.
حكم الأضحية عن الميت
التضحية عن الميت مشروعة عند أكثر أهل العلم من حيث الأصل؛ لأنها نوع من الصدقة، والصدقة عن الميت جائزة بلا خلاف، وهو في حاجة إلى الأجر والثواب؛ لما ورد عَنْ حَنَشٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْصَانِي أَنْ أُضَحِّيَ عَنْهُ، فَأَنَا أُضَحِّي عَنْهُ» أخرجه أبو داود -واللفظ له- والترمذي والبيهقي في "السنن"، وقال البيهقي عقبه: [وهو إن ثبت يدل على جواز التضحية عمن خرج من دار الدنيا من المسلمين] اهـ.
وقال العلامة ابن مَلَك الحنفي في "شرح مصابيح السنة" (2/ 266، ط. إدارة الثقافة الإسلامية): [يدل على أن التضحية تجوز عمَّن مات] اهـ.
وما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أُتِيَ بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ عَظِيمَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَأَضْجَعَ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»، ثُمَّ أَضْجَعَ الْآخَرَ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» أخرجه أبو يعلى في "مسنده" -واللفظ له- وابن ماجه وأبو داود والبيهقي في "سننهم"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
قال شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود" (7/ 344، ط. دار الكتب العلمية): [الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يضحي عن أمته ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وعن نفسه وأهل بيته، ولا يخفى أن أمته صلى الله عليه وآله وسلم ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ كان كثير منهم موجودًا زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكثير منهم تُوُفُّوا في عهده صلى الله عليه وآله وسلم؛ فالأموات والأحياء كلهم من أمته صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا في أضحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكبش الواحد كما كان للأحياء من أمته كذلك للأموات من أمته صلى الله عليه وآله وسلم بلا تفرقة] اهـ.
أقوال فقهاء المذاهب الفقهية في هذه المسألة
القول بجواز التضحية عن الميت تطوعًا -من غير وصيةٍ أو نذرٍ أو وقفٍ- هو مذهب الجمهور من الحنفية والحنابلة، وإليه ذهب الإمام أبو الحسن العبادي والإمام النووي والخطيب الشربيني وغيرهم من الشافعية، كما عدَّها البعض أفضل من الصدقة له.
قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار مع حاشية ابن عابدين" (6/ 326، ط. دار الفكر): [(وإن مات أحد السبعة) المشتركين في البدنة (وقال الورثة: اذبحوا عنه وعنكم، صح) عن الكل استحسانًا؛ لقصد القربة من الكلِّ] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين الحنفي مُحَشِّيًا عليه: [(قوله: لقصد القربة من الكلِّ) هذا وجه الاستحسان. قال في "البدائع": لأن الموت لا يمنع التقرب عن الميت؛ بدليل أنه يجوز أن يتصدق عنه ويحج عنه، وقد صح «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحى بكبشين أحدهما عن نفسه، والآخر عمن لم يذبح من أمته» وإن كان منهم مَن قد مات قبل أن يذبح اهـ] اهـ.
وقال العلامة ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (8/ 202، ط. دار الكتاب الإسلامي): [واختلفوا هل الأضحية عن الميت أفضل أو التصدق أفضل؟ ذهب بعضهم إلى أن التصدق أفضل، وذهب بعضهم إلى أن الأضحية أفضل] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 406، ط. دار الفكر): [(وأما) التضحية عن الميت، فقد أطلق أبو الحسن العبادي جوازها؛ لأنها ضرب من الصدقة، والصدقة تصح عن الميت، وتنفعه، وتصل إليه بالإجماع] اهـ.
وقال أيضًا في "روضة الطالبين" (6/ 202، ط. المكتب الإسلامي): [واعلم أن هذه الأمور -أنبط عينًا، أو حفر نهرًا، أو غرس شجرةً، أو وقف مصحفًا في حياته- إذا صدرت من الحي، فهي صدقات جارية، يلحقه ثوابها بعد الموت؛ كما صح في الحديث، وإذا فعل غيره عنه بعد موته، فقد تصدق عنه، والصدقة عن الميت تنفعه، ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يجري في كل وقف، وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت؛ لأنها ضرب من الصدقة] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (6/ 138، ط. دار الكتب العلمية): [تصح التضحية عن الميت وإن لم يوصِ بها؛ لأنها ضرب من الصدقة، وهي تصح عن الميت وتنفعه، وتقدم في الوصايا أن محمد بن إسحاق السراج النيسابوري أحد أشياخ البخاري ختم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرة آلاف ختمة، وضحى عنه بمثل ذلك] اهـ، وينظر أيضًا: "كفاية النبيه في شرح التنبيه" للعلامة ابن الرفعة الشافعي (8/ 60، ط. دار الكتب العلمية)، و"السراج الوهاج على متن المنهاج" للعلامة الغمراوي الشافعي (ص: 564، ط. دار المعرفة).
وقال العلامة البُهُوتِي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 612، ط. عالم الكتب): [(و) التضحية (عن ميت أفضل) منها عن حي. قاله في "شرحه"؛ لعجزه واحتياجه للثواب، (ويعمل بها) أي: الأضحية عن ميت (ك) أضحية (عن حي) من أكل وصدقة وهدية] اهـ.
ونص عليه أيضًا العلامة الرحيباني في "مطالب أولي النهى" (2/ 472، ط. المكتب الإسلامي).
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (5/ 385، ط. دار الكتب العلمية): [والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها] اهـ.
كما أجاز التضحية عن الميت بعض المالكية مع الكراهة، ومحل الكراهة عندهم هو خوف الرياء والمباهاة بذلك؛ فإذا احترز عن المباهاة والمفاخرة، جازت التضحية بدون كراهة.
قال العلامة الخرشي في "شرحه لمختصر خليل" (3/ 42، ط. دار الفكر): [وفعلها عن ميت (ش) يعني: أنه يكره للشخص أن يضحي عن الميت خوف الرياء والمباهاة، ولعدم الوارد في ذلك، وهذا إذا لم يُعِدَّها الميت وإلَّا فللوارث إنفاذها] اهـ.
المختار للفتوى في هذه المسألة
المختار في الفتوى أنَّ هذه المشروعية مقيدة بألَّا يكون ثمن الأضحية من تركة المتوفَّى، إلَّا إذا كانت وصية أو نذرها وأوصى بالوفاء بهذا النذر، فإنها تنفذ حينئذٍ في حدود ثلث تركته، وما زاد عليه لا ينفذ إلَّا في حقِّ من أجازه، ولا مانع من أن تكون من مال الراغب في التطوع بالأضحية عن الميت على سبيل التبرع والاستحباب، ما دام ذلك في وسعه، وهذا من عظيم البر، وجميل الإحسان، وحُسن الوفاء.
وقد جرى العمل في الديار المصرية إفتاءً وقضاءً بشأن تنفيذ النذر الذي مات صاحبه قبل أن يوفِّي به على التفرقة بين حالتين:
الأولى: أن يكون النذر من غير وصية، فحينئذٍ لا يكون دينًا من ديون الميت المستحقة في تركته بعد وفاته، ولا يلزم ورثته أن يؤدوا هذا النذر عنه، إلَّا أن يتبرعوا بذلك بشرط ألَّا يشمل هذا التبرع القُصَّر.
والثانية: أن يوصي به الناذر قبل موته، فإنه حينئذٍ يدخل في ثلث الوصايا، ويجب الوفاء به من ثلث التركة المخصص للوصايا بعد تجهيزه ودفنه وسداد الديون، وهو مذهب الحنفية.
قال أكمل الدين البابرتي الحنفي في "العناية" (10/ 470، ط. دار الفكر): [مَن مات وعليه حقوقُ الله تعالى مِن صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ أو حجٍّ أو كفارةٍ أو نذرٍ أو صدقةِ فطرٍ؛ فإما أن يوصي بها أو لا، فإن كان الثاني: لم تؤخذ من تركته ولم تجبر الورثة على إخراجها، لكن لهم أن يتبرعوا بذلك، وإن كان الأول: ينفذ من ثلث ماله عندنا] اهـ.
ونصت المادة الرابعة مِن القانون رقم 77 لسنة 1943م على أنه: [يؤدَّى مِن التركة بحسب الترتيب الآتي:
أولًا: ما يكفي لتجهيز الميت ومَن تلزمه نفقته مِن الموت إلى الدفن.
ثانيًا: ديون الميت.
ثالثًا: ما أوصى به في الحد الذي تنفذ فيه الوصية] اهـ.
جاء في المذكرة التفسيرية: [المراد بالديون في المادة: الديون التي لها مُطالِب مِن العباد، وأما ديون الله تعالى، فلا تطالب التركة بها؛ أخذًا بمذهب الحنفية] اهـ.
الخلاصة
بناء على ذلك: فإنَّ الأضحية عن الميت مشروعة، وتكون في مال القائم بها على سبيل الاستحباب والتبرع لا الوجوب، لكن إذا أوصى بالتضحية في حياته أو كان نذر وأوصى بالوفاء به بعد موته، فإنه يدخل حينئذٍ في ثلث الوصايا واجبة الأداء، ويلزم ورثته حينئذٍ الوفاء به في حدود هذا الثلث، وما زاد عليه لا ينفذ إلا في حقِّ من أجازه، أما إذا لم يكن قد أوصى به، فإنه لا يلزمهم الوفاء به، لكن يستحب لهم أن يتبرعوا بذلك عنه؛ وفاءً للمورِّث؛ كما سبق بيانه.