اجابت دار الافتاء المصرية عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:" حكم ترك السعي بين الصفا والمروة في الحج؟ فقد ذهبت إلى الحج، وأديت المناسك، غير أني انشغلت فنسيت أن أسعى بين الصفا والمروة، فهل حجي صحيح؟ وماذا عليَّ أن أفعل؟ وهل كان عليَّ أن أسعى بعد طواف الوداع؟".
لترد دار الافتاء موضحة: انه إذا كان السائل بمكة ولم يغادرها فيجب عليه العودة والقيام بالسعي بين الصفا والمروة، ولا يضر الفصل بين السعي وطواف الإفاضة وإن طال.
أما إذا لم يمكنه العودة إلى مكة مرة أخرى فلا يلزمه الرجوع ويجب عليه دم، وهو شاة، على ما ذهب إليه الحنفيَّة ومَن وافقهم، فإن لم يستطع الفدية لإعسـارٍ فحجه صحيح ولا شيء عليه في ذلك ولا حرج شرعًا، عملًا بمذهب مَن قال بسنية السعي في الحج، وأما فيما يُستقبل بعد ذلك فالخروج مِن خلاف العلماء أولى وأحرى.
أمَّا طواف الوداع فهو آخر ما يفعله الحاجُّ بعد فراغه من المناسك ولا يجوز السعي بعده على ما عليه الشافعيَّة.
السعي بين الصفا والمروة لا يكون إلا بعد طواف
هذا، وقد اشترط عامة الفقهاء في السعي أن يكون بعد طوافٍ؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم سعى بعد الطواف؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة، أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة» متفق عليه.
ونقل الإجماع على ذلك الإمام الماوردي؛ حيث قال في "الحاوي الكبير" (4/ 157، ط. دار الكتب العلمية) في شروط صحة السعي: [مِن شرط صحته أن يتقدمه الطواف، وهو إجماع ليس يعرف فيه خلاف بين الفقهاء] اهـ.
وحصر الشافعية السعي في طواف القدوم أو الإفاضة، فلا يجوز عندهم السعي إلا بعد واحد منهما.
قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (3/ 90، ط. المكتب الإسلامي): [يشترط وقوعه بعد طواف صحيح سواء طواف القدوم والإفاضة] اهـ.
كما نصوا على عدم جواز السعي بعد طواف الوداع.
قال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 256، ط. دار الكتب العلمية): [خرج بقوله: بعد طواف ركنٍ أو قدومٍ طوافُ الوداع] اهـ.
وذلك لأنَّ طواف الوداع هو آخر ما يُفعل بعد الفراغ من المناسك، فإن فُعل قبل الانتهاء منها فلا يعتد به، ولا يكون المفعول طواف وداع.
قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 72): [قال أصحابنا: يشترط كون السعي بعد طواف صحيح سواء كان بعد طواف القدوم أو طواف الزيارة ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع هو الواقع بعد فراغ المناسك. فإذا بقي السعي لم يكن المفعول طواف الوداع. واستدل الماوردي لاشتراط كون السعي بعد طواف صحيح بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعى بعد الطواف، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم»، وبإجماع المسلمين، ونقل الماوردي وغيره الإجماع في اشتراط ذلك] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 484، ط. دار الكتاب الإسلامي): [فإن أخره -أي: السعي- إلى ما بعد طواف الوداع لم يعتد بوداعه؛ لأنه إنما يؤتى به بعد الفراغ وإذا بقي السعي لم يكن المأتي به طواف وداع] اهـ.
مناسك الحج والعمرة مبناها على التيسير والتخفيف ورفع الحرج عن المكلفين
الحاصل أنَّ السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة من المسائل الخلافيَّة التي يجوز الأخذ فيها بقول أيٍّ من المجتهدين؛ إذ من القواعد المقررة في التعامل مع المسائل الخلافية شرعًا أنَّه "لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه"، وخاصةً إذا كان الرأي المأخوذ به محققًا للتيسير والتخفيف المرعي في الحج؛ حيث روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: «اذْبَحْ وَلا حَرَجَ»، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارْمِ وَلا حَرَجَ»، فما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن شيء قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلا قال: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ».
ومما يستأنس به على اعتبار العلماء للتيسير في الحج، وفي مسألتنا: قول الإمام مالك في رواية إسماعيل القاضي من رعاية قول من قال بإجزاء الدم عمن ترك السعي وعاد لبلده وطال به العهد حتى أصاب النساء.
قال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (3/ 1198، ط. أوقاف قطر): [وذكر ابن القصار عن إسماعيل القاضي أنه ذكر عن مالك فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة حتى تباعد وطال الأمر، فأصاب النساء: أنه يهدي ويُجزِئُه، قال: وأحسبه ذهب في ذلك إلى ما وصفنا للاختلاف، ولقول بعضهم: ليس بواجب، وقال بعضهم: إنه تطوع] اهـ.