منير مراد .. ذلك الراعي الرسمي لأغاني المناسبات في البيت المصري. فإذا كان للفن المصري عظماء يجسدون روحه ويعبرون عن آلامه وأفراحه، فإن منير مراد يقف -بلا شك- في الصفوف الأولى من هؤلاء العظماء. لقد كان حبي لمنير مراد منذ طفولتي حبًا مغلفاً بالانبهار، فقد كنت أراه فنان متعدد المواهب، وكأنه جاء من المستقبل ليصنع ألحان الحاضر، متجاوزًا زمنه بمراحل.
كان يجمع بين موهبة التلحين وأداء التمثيل بروعة نادرة، ويقدم لنا أعمالًا فنية تشع بالحياة والإبداع. كل لحن من ألحانه يحمل روحًا مميزة، وكل دور من أدواره ينبض بطابع يشع حيوية وحركة، كأنما كان يعيش في عالم مختلف، عالم من الديناميكية السريعة المتغيرة والمتجددة. في كل مرة أستمع فيها إلى ألحانه، أشعر وكأنني أغوص في أعماق بحر من المشاعر الرشيقة ، وأرتقي إلى آفاق جديدة من الروعة الفنية.
وُلد منير مراد في الثالث عشر من يناير عام 1922 في القاهرة، وقد نشأ في بيت يعج بالفن والموسيقى ، فكان والده، "زكي مراد"، فناناً وموسيقياً معروفاً، مما زرع في قلبه حب الفن منذ نعومة أظافره.
منير مراد هو الشقيق الأصغر لليلى مراد، إحدى أعظم نجمات الغناء والتمثيل في تاريخ السينما المصرية، وقد كان لهذا الرابط العائلي تأثير كبير على مسيرته الفنية، حيث ساعدته ليلى في بداياته وأدخلته إلى عالم الفن الذي كان مليئاً بالتحديات والمنافسة.
شهدت مسيرة منير مراد تحولًا جذريًا بمجرد أن تعاون مع شادية، حيث سنحت له الفرصة ليعبر عن براعته الموسيقية الفائقة ويُثبت مكانته كأحد عمالقة التلحين في مصر.
"واحد.. اتنين"، كانت تلك البداية الرائعة لهذا التعاون المبهر، والتي لم تكن مجرد لحن، بل كانت بمثابة إعلان عن ولادة فنان قادر على تحويل الكلمات إلى سيمفونيات تحاكي الروح والوجدان. هذا اللحن الذي حقق نجاحًا ساحقًا، لم يفتح فقط آفاقًا جديدة أمام منير مراد وشادية، بل أيضًا مهّد الطريق لمزيد من الأعمال المشتركة التي طبعت بصمة لا تُمحى في تاريخ الأغنية المصرية. وإذا كانت أفراح الخطوبة في أرجاء الوطن العربي تصدح بأغنية "يا دبلة الخطوبة"، فإن منير مراد يُكتب له النصيب الأوفر من الحضور في هذه المناسبات.
مرت حياة منير مراد الفنية بعدة مراحل، كان أبرزها وقت الخمسينيات والستينيات عندما قدم أهم أعماله الموسيقية والسينمائية. كانت هذه المدة زاخرة بالإبداع والتجديد، حيث تأثر بالتيارات الموسيقية الحديثة وأدخل أنماطاً جديدة في التلحين. لم يكن يخشى من التجريب وكان دائماً يبحث عن الابتكار والتجديد في أعماله.
منير مراد، ذلك الملحن الذي نسج من الألحان حكايات لا تُنسى، استطاع ببراعته أن يعطي صوتًا لأحاسيس ومشاعر عديدة من خلال تعاونه مع كبار النجوم، وجعل لنا في كل مناسبة أغنية بأنامله ، فتأتي ألحانه مع عبد الحليم في أغنية "وحياة قلبي وأفراحه" والتي تزلزل بيوتنا في كل نجاح ، معلنةً عن لحظات البهجة والنجاح التي تجمعنا.
في تدفق سلس للأحاسيس المتراقصة على إيقاع ألحان منير مراد، يتحول الاحتفال بالإنجازات إلى تقدير عميق للروابط الأسرية، فألحانه، التي تنقلنا نحو العرفان والمودة، تتجلى بروعتها في "سيد الحبايب"، حيث تصدح شادية بصوتها العذب، مما يزين عيد الأم بلمسة موسيقية تملأ القلوب بالحب والامتنان.
إن ألحان منير مراد هي الراعي الرسمي لمناسباتنا منذ سنوات، وهي الشاهد على تطور حياتنا ومشاعرنا ومراحل عمرنا المختلفة.وهي الشاهد على "الحب الأول" و دقات القلب الأولى، فقد تجلت عبقريته في ترجمة العواطف الإنسانية إلى ألحان تلامس الروح، وذلك حين أبدع في لحن أغنية "أول مرة تحب يا قلبي" لعبد الحليم حافظ، تلك اللوحة الفنية التي ترصعها المشاعر الأولى للحب النقي والصادق. ولمصر جاءت أغنيته "يا مصر قومي وانهضي" لتعبر عن حب من نوع آخر.
في كل تجلياته الفنية، يؤكد منير مراد على قدرته الفائقة في صياغة المشاعر الموسيقية التي تُرافقنا في مختلف أدوار الحياة، مُحولًا الألحان إلى رموز عاطفية تعبر عن تجاربنا الإنسانية الأعمق. لقد نجح مراد في نسج ألحانه بمهارة تخاطب القلب مباشرةً. كل نغمة من ألحانه تُعد تجسيداً للعاطفة، ترتفع وتنخفض بتناغم يحاكي نبضات قلب متيم، مما جعل أعماله خالدة في ذاكرة المستمعين، فهي لا تعبر عن مجرد لحظات، بل تصبح مرافقة لهم في مسيرة الحياة.
ها قد حان فصل الصيف! وجاء إعلان دخوله بلمسات مراد مع أغنية قاضي البلاج ، فبداية الصيف تأتي بنسيم البحر واللعب على الرمال مع "دقوا الشماسي" ويعقبه المرح مع " ضحك ولعب وجد وحب".
قدم منير مراد مع فؤاد المهندس رائعته "قلبي يا غاوي خمس قارات"، و"كعب الغزال" لمحمد رشدي، كما تعاون مع الفنانة وردة الجزائرية في أغنية "بودعك"، والتي كانت تحفة فنية تجمع بين اللحن العذب والأداء المتفرد لوردة، والتي تُعد من الأغاني التي تُظهر قدرة منير مراد على خلق أجواء عاطفية عميقة من خلال ألحانه.
إن البصمة الفنية لمنير مراد عبر هذه التعاونات تُظهر قدرته على التنوع والابتكار في اللحن، مما جعل من أعماله جزءًا لا يتجزأ من تراث الأغنية العربية الذي يستمر في التأثير على الأجيال المتعاقبة.
[[system-code:ad:autoads]]
بالإضافة إلى التلحين، خاض منير مراد تجربة التمثيل وشارك في عدة أفلام ناجحة مثل "نهارك سعيد" و"موعد مع إبليس"و "أنا وحبيبي"، حيث أثبت موهبته التمثيلية وقدرته على أداء أدوار متنوعة بتميز. كانت أغانيه في الأفلام تضيف نكهة خاصة وتسهم في نجاح هذه الأعمال.
الموسيقار منير مراد، الذي يُطلق عليه صاحب الجمل الموسيقية الخفيفة والسريعة والمبهجة، يظل أثره الفني حيًا في قلوبنا. نستمتع بموسيقاه وألحانه التي تراقص الأسماع بجمالها الأخاذ، وتحيي فينا الطرب الأصيل.
رغم البراعة الموسيقية الاستثنائية لمنير مراد، فهو ما زال يُغفل عنه التقدير الإعلامي الذي يستحقه بجدارة. لهذا السبب، أشدد على أهمية إعادة تقديم مسيرته الفنية واستعراض إبداعاته كمنارات إبداعية للأجيال القادمة. لقد حان الوقت للاحتفاء بهذه القامة الموسيقية العظيمة، ليأخذ مكانه الراجح في تاريخ الفن العربي كأحد أعمدته المؤثرة.
[[system-code:ad:autoads]]