لطالما يستشعر الإنسان براعته في التغني بألوان الاختلاف التي يتحلى بها بنو البشر، في محاولة لإظهار جمال وإيجابيات تلك الاختلافات التي من شأنها أن تعزز أواصر الترابط والتعايش والتسامح بين الأفراد والمجتمعات، داعية تلك الاختلافات للاستجابة لدعوة الإنسانية التي من شأنها إنقاذ الإنسان من الذوبان في نزعاته التي قد تفصله عن الجمع البشري والوحدة الإنسانية، وقد استمر الاهتمام بالاختلافات حتى أن هذا الاهتمام التي يزهر به الواقع الإنساني باعتباره عمادا رئيسيا للتعارف وتقريب المسافات، أخذ بالتوسع على حساب الالتفات الجدي والحقيقي لما يتشابه (نقاط الالتقاء والتشابه) أيضاً به الإنسان مع الآخر، حيث إن هنالك روابط مشتركة يمكن استثمارها في تحقيق ذات الأهداف السامية بالارتقاء بالمعنى الإنساني والتشاركي الذي من شأنه الارتقاء بالعلاقات الإنسانية.
وحين حاول الإنسان بشتى الطرق التنقيب عن أساس الأشياء، وأصول بنيتها الدقيقة، سعياً منه للوصول لفهم دقيق لنتاجاتها التي تبدو لاحقاً على أشكال وأنماط مختلفة، وتتخذ من فحواها مكوناً بارزاً لمجمل القضايا والانشغالات التي تجذب عقل الإنسان لفوهتها، وتحكم السيطرة على زناد وقته وجهده وبحثه الفكري المعمق، التقى مع أميز تلك الأمور التي احتلت مساحة عريقة في الساحة الفلسفية وتداخلت في مختلف حقولها تلك المحاولات التي تعنى بفهم المنبع الأساسي والأول لـ "المعرفة".
وبالعودة مرة أخرى للحديث عن التشابه والاختلاف، نجد أنه وعلى الرغم من تعدد التفسيرات الفلسفية التي يعزى لها مصدر المعرفة، إلا أننا عندما نقرر التركيز على الرأي الذي يعتبر العقل البذرة التي تنمو منها المعرفة وتترعرع، ونجد أن هناك العديد من الآراء الفلسفية التي ذهبت للتحييد وإقصاء كل من عامل التجربة، أو الدافع الحسي النابع من داخل الإنسان والاعتماد غير المشروط على ملكة العقل وقدراته، باعتباره المادة الخام لمختلف الإفرازات المعرفية، سيما أن العقل يمثل خيطا جامعا لقوة فطرية يشترك بها كافة أبناء البشر، نتوقف لدى الرأي الذي يصف العقل باعتباره "أعدل الأشياء قسمةً بين الناس" كما يقول الفيلسوف رينيه ديكارت، فهل حقاً يتشابه الإنسان في العقل باعتباره "المادة الخام" التي تتشكل منها المعرفة؟ وما الذي قصده ديكارت باعتبار العقل قسمة عادلة بين بني البشر؟.
إن الرفض هو أول ما يمكن تخيله من ردة فعل على التصريح بتشابه عقولنا، حيث يميل ليجد الإنسان في عقله ما يميزه عن الآخر، ولذلك قيل في الأمثال الشعبية المتداولة ما مفاده، أن كل فرد من بني البشر رضي بعقله ولم يرض أحد برزقه! في إشارة للتناقض الذي يأتي من عدم التهاون بتقييم كل منا لعقله، والتقاء ذلك مع نسبة لا بأس بها من الفردانية الغنية بالـ "أنا"، والتي تشير لها العديد من الوقائع المعاشة والممتدة على طول خيط التاريخ، و"صراع الجدليات"، واتخاذ الموقف النهائي والحاسم في العديد من القضايا التي تنل حظها واكتفاءها رغم اكتناز ما قدم في إطارها.
وفي ذات السياق فإن الموثوقية الموجودة لدى كل واحد منا بعقله يعتبر أحد الأدلة التي استخدمها الفيلسوف رينيه ديكارت، بالتدليل على تشابهنا في عقولنا، حيث إن السعي الإنساني يكون للاستزادة الثقافية والمعرفية والتطور أو الارتقاء بالمهارات والخبرات ولكنا لم نسمع من قبل عن محاولة لتبديل العقل أو رغبة الإنسان في حصوله على عقل مختلف عن عقله، بل إن الرغبة هنا تتحدد فيه متعلقات العقل من أفكار ومهارات إضافية.
إن بناء قناعة تتلاقى مع ما أشير إليه من اعتبار الإنسان ممتلكاً لمادة خام عقلية متشابهة وطاقة كامنة لا تفاضل فيها، يعيد من تصوراتنا تجاه المعرفة والقدرة على الخروج بتفرعات معرفية غنية بعيدة عن إطلاق تلك المعارف وإلصاق العمومية الفضفاضة في جسدها، بل إن ذلك يمتد ليلقي لنا طرف الخيط الذي يعيننا على دراسة المصادر المعرفية كأشخاص -مثلاً-، حيث ان تغذية الأرضية الأساسية يختلف من شخص إلى آخر، في طبيعة الوجبة المعلوماتية و الخبراتية المقدمة، ومن جهة أخرى فإن التعامل مع السلة المواد الأولية التي تم تجميعها من معلومات ومن خبرات ومواقف وأحداث وأسلوب في التحليل والنقد وتقبل المعلومات يختلف من شخص إلى آخر، وبالتالي فإن طبيعة إنتاج المعرفة وإن تشابهت في خطواتها العامة لدى الجميع إلا أنها لا يمكن لها أن تتشابه في كيفية معالجة موادها الأولية والأساسية حين كانت تعتمد تلك الخطوات على أسس ومحددات مختلفة.